مصر الظالمة نفسها

آخر تحديث : الأربعاء 19 يونيو 2019 - 9:03 صباحًا
بقلم: حامد الأطير
بقلم: حامد الأطير

لو اجتمع العالم كله شرقه وغربه بره وفاجره لتشويه صورة المصريين والتفنن في الإساءة إليهم والحط من قدرهم ما استطاعوا أن يفعلوا عُشر ما يفعله المصريون بأنفسهم!

إن القوة الناعمة للدولة المصرية قد آلت على نفسها هدم الشخصية المصرية والقضاء على كل سماتها الإيجابية وسعت إلى ذلك بكل مصادرها ومشتملاتها ومكوناتها الروحية وعبر وسائلها وأدواتها المتنوعة، وبدلاً من جذب الآخرين والتأثير فيهم إيجابياً نراها قد عملت على تحقيق العكس فأحدثت النفور والإشمئزاز وربما الإحتقار والنظرة الدونية للإنسان المصري ابن الحضارة المعجزة.

القوة الناعمة في أبسط صورها هي القدرة على الإقناع والتأثير والسيطرة والهيمنة على عقول وثقافات وأيدلوجيات الآخرين وتشكيل مفاهيمهم وأفضلياتهم والتغييرفي سلوكهم والتأثير في الرأي العام في الداخل والخارج من خلال القوة الروحية والمعنوية المتجسدة في الأفكار والأخلاق والمبادئ التي تُقدم في مجالات الثقافة والفن والعديد من القيم السياسية عبر الوسائل غير العنيفة.

ونستطيع أن نرى بجلاء أن القوة الناعمة المصرية لا تتناغم ولا تتناسب مع هذا التعريف بل وتتضاد معه سواء على مستوى الداخل أو محيط الخارج، ففي الداخل نلمس وبشدة تراجع دور القوة الروحية المتمثلة في المؤسسات الدينية كالجوامع والكنائس وعلى رأسها جامع ومؤسسة الأزهر والكنيسة الأرثوذكسية، لقد افتقدت الأداء الفعال وحصرت دورها في أداء الشعائر والصلوات داخل جدرانها وتجمد خطابها ووعظها عند غايات ومفردات لم ينلها التغيير والتطور فانعدم تأثيرها أو كاد ينعدم وسط الناس وفشلت بجدارة في شرح وتوضيح غاية الله ومراده من الرسالات السماوية التي كفلت للإنسان حرية المعتقد وحرية الاختيار وحددت أن الله هو الموكل بالحساب والعقاب وأنه لا يجوز لأحد نزع الألوهية لنفسه ليقوم مقام الله فيحاسب الناس ويصنفهم مابين ما بين الإيمان والكفر ويعاقب الناس عوضاً عن رب العالمين، كما فشلت في بسط ونشر قيم التغافر والتسامح مما أوقد الصراع الطائفي والمذهبي الكامن عبر التاريخ تحت غلالة رقيقة وهشة ينتظر من يشعله، ومما أفسح المجال وفتح الباب على مصرعيه للتيارات والجماعات الدينية المتطرفة منحرفة العقيدة للانتشار واستقطاب عدد لا بأس به من المصريين وغيرهم إلى صفوفها وليسود خطاب التشدد بدلاً من التسامح والتغافر وقبول الآخر.

وقد تراجعت الثقافة المصرية المتجسدة في الأدب والفن والموسيقى والدراما وانحصر دورها جبراً بحكم العولمة وثورة تكنولوجيا الاتصالات والمعلومات المتدفقة كالسيل بسرعة البرق فعجزت عن مجارة المستجدات والتأقلم مع الحديث وعجزت عن استخدام أدواته وظلت حبيسة فكرها المنغلق وأدواتها القاصرة ونتيجة ذلك أننا لم نرى جديداً في الأدب ولا الموسيقى ولا الفن ولا الدراما! ومما يجلب السخط ويثير الحنق أن هذه الروافد الثقافية (أدب وموسيقى وغناء ومسرح وسينما ودراما) أبدعت وتبدع أيما إبداع في الأساءة والسخرية من القيم والمُثل العليا والأعراف والأخلاق الفاضلة بل وسخرت وتفهت الرموز والثوابت والمقدسات الوطنية والدينية وأعلت من شأن كل القيم السلبية، فروجت للشر والعنف والقتل والتطرف والجنوح والخيانة والدعارة والتفريط في كل ما هو نبيل ووطني وتقديم كل ما هو مسىء ومهين ومدمر للشخصية المصرية للنيل منها والاستهزاء بها والحط من قدرها وكرامتها، وهذا على عكس دول أخرى عظمت مكانة وأعلت قدر شعوبها ونشرت قيمها وغزت عقول الآخرين وسيطرت على وجدانهم وتحكمت في أفهامهم وتصوراتهم، وخير مثال لذلك أمريكا وتركيا، فبأفلامهم ومسلسلاتهم استقطبوا عواطف شعوب كاملة وسيطروا على فكرها دون طلقة واحدة سوى بعض من طلقات القوة الناعمة الهادئة!

كما أن التراجع نال من المؤسسات التربوية والتعليمية المتمثلة في المدارس والجامعات، ولك أن تحدث بلا حرج عن قصورها وتقصيرها، فهي لم تعد تُربي ولم تعد تُعلم، لذا فمصر تخلفت عن الركب العالمي وتزيلت دول العالم من حيث جودة التعليم الذي يتم – إن تم- وفقاً للمعايير والمفاهيم المصرية لا المعايير الدولية، فخلت المدارس من الطلاب والمعلمين وكل منهم راح يبحث عن مبتغاه خارج أسوار وفصول المدارس، الطلاب يبحثون عن العلم في المراكز التعليمية الخاصة وبيوت المعلمين لأنهم لا يتحصلون على العلم داخل المدرسة، والمعلمون راحوا يبحثون عن عائد مادي يسترهم لقلة الرواتب وضعفها عن مواجهة أعباء الحياة الضرورية وبعضهم تملكته شهوة المال فراح يسعى لتكوين الثروات وشراء العقارات، وترتب على ذلك ضعف المنتج أو المُخرج التعليمي النهائي (المعلم والطبيب والمهندس والمحاسب إلخ) وقل الطلب عليه خاصة من الدول العربية.

كما أن الضعف والتدهور قد ضرب المؤسسات الإعلامية الحكومية المتمثلة في الصحافة والمحطات الإذاعية والقنوات التليفزيونية بنوعيها الأرضي والفضائي ووسائل الميديا الحديثة والحائرة بين كونها وزارة حيناً من الوقت وهيئة حيناً آخر وأصبح حالها يُرثى له لما آلت إليه، فبعد عز وقوة وهيمنة وتأثير على الداخل وعلى المحيط الأقليمي والعربي والأفريقي وربما الدولي، صارت في مهب الريح فضعف أداؤها وتبدل حالها ولم تعد قادرة على تقديم رسالة إعلامية مقنعة أو مؤثرة سواء داخلياً أو خارجياً لضحالة المحتوى والمضمون ورداءة الشكل و الفشل في تحديد الاستراتيجية والأهداف وافتقاد المهنية فتحولت إلى نشرات داخلية للوزارات والمؤسسات والهيئات الحكومية، وأمست تلك المؤسسات رغم عراقتها بعيدة كل البعد عن الحرفية والاحترافية في الإدارة.

والمثير للشفقة والسخرية أن مصر حتى الآن لا تملك قناة إعلامية عالمية تفرض سطوتها على المشاهدين أو جريدة دولية تشد القراء، رغم ما تعج به تلك المؤسسات بجيوش جرارة من العاملين تنوء بحملها الجبال وهي لا زالت مراكز نفقات رهيبة بلا عائد تبتلع جزء لا بأس به من الميزانية علاوة على مديونيتها للبنوك التي تخطت المليارات بما لايتناسب مع أدائها الهزيل.

أما عن التاريخ وهو أحد أهم عناصر القوة الروحية فقد تراجع دور مصر التاريخي وضعف تأثيرها في المحيط العربي والإقليمي والعالمي نتيجة فقد وخسارة العديد من عناصر القوة المؤثرة لصالح دول وأطراف أخرى برزت وبزغت على الساحة، وقد صاحب ذلك تراجع الأداء الديبلوماسي الذي يستمد قوته من قوة الدولة، رغم أن لمصر سفارات وقنصليات في دول العالم المؤثرة وغير المؤثرة يعمل فيها أعداد غفيرة من السفراء والقناصل والعاملين، ولازالت المحاولات جارية على أشدها لاستعادة تلك المكانة أو على الأقل استعادة معظمها. وما يدعو للأسف ويثير الشجون أن المصريين يقفون أمام أمام حضارتهم القديمة المبهرة عاجزين عن فهمها وتقديرها ودراستها والاتصال بها والتواصل معها، فإلى الآن لم يستطيعوا منحها ما تستحق من اهتمام وقداسة وسمو وعلو وكأنهم ليسوا أبنائها وكأن من بنى هذه الحضارة ليسوا جدودهم العظماء أو كأنها غريبة عنهم ولا نعرف شعب يملك حضارة مثل الحضارة المصرية قد ترك للأغيار والآخرين هذا الإرث العظيم من العلم والبناء والأخلاق والسمو والتفرد ليسرقونه ويسلبون آثاره المبهرة وبردياته النادرة التي تُخبىء الكثير من الأسرار والإعجاز والعلوم، مصيبة كبرى أن يترك هذه الشعب صاحب هذه الحضارة الراقية الأغيار يكتبون له تاريخه فيذكرون ويُظهرون منه ما يشاءون وينكرون ويخفون منه ما لا يرغبون.

إن الحضارة المصرية جديرة بأن يكتبها أبناؤها ويؤرخونها ويدرسونها ويسبرون أغوارها بأنفسهم، فهي أرث تاريخي وروحي وثقافي وعلمي يؤثر في الكون كله.

ويظل السؤال مطروحا والجرح مفتوحاً هل يستطيع المصريون استعادة مجدهم القديم ويصبحوا بعظمة جدودهم القدماء ويتفوقوا على العالم كما تفوق هؤلاء الأجداد؟

لقد آن للدولة المصرية أن توقف حربها ضد نفسها وتدافع عن كيانها ووجودها وتصحح مسارها وتضبط وتُحسن أداء مؤسساتها وتعمل على استعادة أمجادها، ويجب عليها ألا تغفل الشباب فهم كنزها الأعظم وسلاحها الأمضى للرقي والتقدم وهم يشكلون 62% من شعبها وعليها أن تُحسن إدارة واستغلال تلك الطاقة الجبارة وهذا المورد البشري الثري الذي يمكن أن يفتح لها آفاق رحبة للتنمية والتطور ويضمن لها مركز متميز عالمياً إن هي اتقنت تعليمه وتوجيهه وإكسابه مهارات العمل التي تتماشى مع متطلبات السوق العالمي ليصبح لها قوة ناعمة مؤثرة.

رابط مختصر
2019-06-19
أترك تعليقك
0 تعليق
*الاسم
*البريد الالكترونى
الحقول المطلوبة*

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

شروط التعليق : عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

ان كل ما يندرج ضمن تعليقات القرّاء لا يعبّر بأي شكل من الأشكال عن آراء اسرة العربي الأفريقي الالكترونية وهي تلزم بمضمونها كاتبها حصرياً.

حاتم عبدالقادر