أمي.. متى اللقاء؟

آخر تحديث : الأربعاء 25 ديسمبر 2019 - 1:05 مساءً
                         بقلم: حاتم عبد القادر
بقلم: حاتم عبد القادر

أمي الحبيبة، مضى على رحيلك أكثر من شهر ونصف الشهر وأنا حتى اللحظة لم أستوعب الحدث، لم أستوعب كيف أعود إلى بيتك ولا أجدك أمام عيني أقبل يديكِ وخديكِ؟.. كيف أفوت على غرفتكِ وأرى فراشكِ خاليا منكِ.

وشهر ونصف وأنا أنتظر عودتك، ربما كان الخبر كذبا، فقد اشتقت إليكِ وإلى طلتكِ وقبلتكِ التي تضعيها على خدي كلما رأيتيني.

والله، يا أمي لولا إيماني برب العالمين وإيماني بأن دار الدنيا حق ودار الآخرة حق، ما صبرت على فراقكِ دقيقة واحدة، ولكن أعلم أن لكل منَا أجل سيأتي موعده يوما ليغادر الدنيا إلى دار الحق، وبفضل الإيمان فلا أستطيع أن أعزكِ على الله يا أمي، فهو رب العالمين، كما خلقنا من التراب حتما سيعيدنا إليه ولو بعد حين.

ما يصبرني على فراقكِ يا أمي شعوري بأنكِ قد ارتحتي من هموم الدنيا وزيفها ونفاقها، فكان يوم مشهدكِ أسرع يوم في حياتي، ولم أكن أتوقع أن تفيض روحكِ إلى بارئها ويعلنون الخبر ويتم تغسيلك والصلاة عليكِ ومراسم الدفن والعزاء بهذه السرعة وأن أحضر من القاهرة لألحق بكل هذا!

ما يصبرني، أنه ولأول مرة في حياتي، أشعر براحة كبيرة عند قبرك، فقد منحني الله عز وجل شعورا بالطمأنينة والراحة عند دخولكِ قبركِ (بيتك الأبدي) فقد أراد الحق أن يطمأنني عليكي وعلى حالكِ في آخرتكِ، فقد شعرت أنكِ هنا فقط “راحتكِ”، فكنتي تجرين إلى قبركِ متعجلة للخلود والسكينة، فأنتي مع الله وملائكته، في عالم الصدق والحقيقة والوعد الحق.

إنها الرحمة التي أهداها الله لكِ يا أمي في دار الميعاد، ولم يبخل عليا سبحانه وتعالى أن يهدي إلىَ هذا الشعور الجميل (بأنكِ في رحمته وأنه راضٍ عنكِ)، ولما لا وأنتي التي طوال حياتكِ كنتي متسامحة في حق نفسكِ من أجلنا وكل من تعرفينه إرضاء لله تبارك وتعالى.. ولازلت أتذكر كلامك لي “خذ من وسع”، ” بني آدم مرجعه إلى حفنة تراب”.. إلى آخر نصائحك وكلامك الذي لم نتعلمه في مدرسة أو جامعة، ولكنها مدرسة الحياة.. فلم تصل درجة سماحتي مع الناس مثلكِ يا أعز الناس.

كنتي متسامحة لأبعد مدى مع الجميع، وكثيرا ما كنت أختلف معكِ في هذا النهج، فلست بهذه الدرجة، وظللتي أنتي على تسامحكِ حتى رحيلك.

كلما زرت قبركِ يا أمي أكون فرحا بالدقائق التي أجالسكِ فيها، أشعر بالراحة والهدوء، وأشعر بالاطمئنان عليكِ في كل مرة وأن الله كتب لكِ النجاة والفوز بالآخرة، هو شعور أتمنى من الله صدقه؛ فقد صبرتي وتحملتي في السنوات الأخيرة لمرضكِ يا أمي.. فكم كنت أتألم حين أشعر بعدم راحتكِ في النوم أو الحركة.. كنت أشعر بالخجل من نفسي لعدم قدرتي على خدمتكِ أو أكون سببا في راحتك.

كنت أتمنى أن أكون علاجا أو دواءً، أو أكون ساحرا يحضِّر لكِ معجزة شافية، ولكن الشافي هو الله بيده كل شئ فهو على كل شئ قدير، وما نحن إلا بقدرته وتحت قدرته.

اليوم يا أمي أدركت قيمتك، نعم، فكم أتمنى عودتك للحظة أرتمي بين أحضانكِ وأقبل يديكي ورأسكِ وقدميكِ وأطلب منكِ أن تسامحيني على أي شئ فعلته في حقك، فلن أدعي أنني كنت الإبن البار الذي خدم وضحى وقدم ما كان ينبغي أن يقدمه لأمه، عل العكس تماما، فكم كنت إنسانا اعتماديا، وظللتي أنتي تخدميني وتقدمي لي العون حتى آخر يوم في عمرك.. فأنا المدين وسيبقى ديني لكي في رقبتي حتى آخر يوم في حياتي، ومهما فعلت لن أوفي حقكِ ساعة واحدة يا أمي.

كنت أتمنى أن أرد لكِ ولو جميل واحد من “الجمايل” التي أفضتي بها عليَّ أنا وأخوتي، ولكن ما استطعنا، كنا دائما نأخذ ولا نعطي، وكنتي دائما “فَرِحة” بعطائكِ لنا، فقد أغدقتي علينا بكل ما تملكين من أجل تربيتنا وحتى نصل إلى ما وصلنا إليه بفضل الله وبمساعدتكِ لنا وأبي رحمه الله.

أمي، دائما في شوقٍ إليكِ، كنت أعيش وأعلم أن الموت حق وسيأتي يوم يكون فيه مصيركِ الموت، لكني عشت وكأن هذا اليوم لن يأتي “مؤكد كانت أمنية مستحيلة”، فكنت أتمنى أن تكوني بجواري طوال حياتي.

من كثرة شوقي إليكي يا أمي لا أستطع النظر إلى صورتك، فهذا يؤلمني ألما شديدا لا يمكن اختزال وصفه في سطر أو مقال أوحتى كتاب، و”حقا” لا يعرف المرء قيمة ما يملكه إلا بفقدانه، وكنتي أعز وأغلى ما أملك يا أمي، وبعد رحيلك كان اليقين.

أمي، في جلسات النهار والسمر أحكي عنكي أنا وزوجتي (التي تحبكِ حبا مخلصا)، نتذكر مآثركِ وخصالكِ الطيبة، وتذكرني زوجتي معترفة ومقرة بأنها لم ترى منكِ إلا كل طيب، وتروي لي أنها كانت فرحة ومسرورة بالأيام التي قضيتيها معنا في بيتنا، ولأول مرة، فلم تبيتي في بيتنا ليلة واحدة، كنتي دائما متعلقة ببيتكِ وبغرفتك وعاداتكِ التي حرصتي أن تمارسيها في بيتك حتى اليوم الأخير.

مازالت زوجتي مرتدية ملابسها السوداء حزنا على فراقكِ يا أمي، ولا تعرف متى ينتهي هذا الحداد.. فلم أطلب منها ارتدائه أو خلعه، إنما الوفاء التلقائي وحبها لكِ هو ما دفعها لهذا الحداد الطويل.

تقول زوجتي لي: عمري ما رأيت من ماما فعلا أغضبني أو تصرف يضايقني، وتشيد دائما بهدوئك وأن صوتكِ غير مسموع وليس لكِ “حسا”، كانت دائما تقول لي هذا الكلام في حياتك، والآن تكرره بعد مماتك.

ميار إبنتي الصغيرة التي دائما كانت تشاكسكِ وتغلبك لتأخذ منكِ البسكويت والشيكولاتة والكيك، تسأل عليكي الآن وتقول “نفسي أرى جدتي لمرة واحدة فقط”، أما حفيدكِ، معتصم حاتم، فأخبرني ذات مرة على طعام “الغذاء” قائلا: “جدتي وحشتني جدا”، ولكن مروان حاتم، كبيرهم، أفهمهم أنهم لن يتمكنوا من رؤيتكِ لأنكِ في عالم الحق، فكان أكثر منهم إدراكا.

كلما ذهبنا لزيارتكِ يا أمي أنا وشقيقتي الكبيرة أمال وابنتيها (بسنت وندى) وزوجتي الغالية شيرين، نذهب إليكِ فرحين، ويدور ابني معتصم فرحا بابتسامته حول قبرك، وعند أول الشارع يجري معتصم ويسبقنا عند القبر، فقد أصبح عارفا لمكانه، ويشير إليه بابتسامته وضحكته المشهورة، ويصر في كل مرة أن يحضر معنا لزيارتك، ويقبل قبرك ويتحسسه بيده كما يراني أفعل.

بموتكِ يا أمي أصبحت أكثر إيمانا بالموت، وأصبح “دنو الأجل” أقرب من ساعة مضت.. بموتكِ يا أمي أصبحت أكثر صبرا على مصاعب الحياة ومتاعبها.. أصبحت أكثر تسامحا كما كنتي المتسامحة دائما.. أصبحت أكثر تعلقا بالحق تبارك وتعالى، راجيا منه الصلاح والهداية وأن يلحقني بالصالحين. أمي، أدرك أن موت الآباء والأمهات لن يوقف الدنيا، فالكل يرحل وتمضي الحياة، لكني حتى اللحظة لم أعد إلى الحياة، الحياة التي كانت تلهي الجميع، فما زلت عاكفا عن الكثير، حتى قلمي لم يخط مقالا أو خاطرا إلا ما كتبته عنكِ، فقد ضاعت مني الفكرة والموضوع، رغم كثرة الأحداث ولهيبها، فمتى العودة.. لا أعرف. ولكن ما أعرفه أنني في شوق دائم لكِ، منتظرا لقائكِ، فمتى اللقاء؟

رابط مختصر
2019-12-25 2019-12-25
أترك تعليقك
0 تعليق
*الاسم
*البريد الالكترونى
الحقول المطلوبة*

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

شروط التعليق : عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

ان كل ما يندرج ضمن تعليقات القرّاء لا يعبّر بأي شكل من الأشكال عن آراء اسرة العربي الأفريقي الالكترونية وهي تلزم بمضمونها كاتبها حصرياً.

حاتم عبدالقادر