“كورونا”.. البعث الجديد للجنس البشري

آخر تحديث : الثلاثاء 31 مارس 2020 - 7:17 صباحًا
بقلم: أمال العسري
بقلم: أمال العسري

إذا ما تعرض الإنسان لأزمة عصفت به على مختلف الأصعدة صحية كانت أم اقتصادية أم مجتمعية أو غيرها، فهل ستعود الحياة كما كانت ؟؟ … الأكيد أن الجواب سيكون لا لن يعود العالم كما كان.

في زمن الكورونا لم تعد لقهوة الصباح طعم و لا لشاي المساء لذة و لم يعد الشغل الشاغل لعلية القوم شراء النبيذ الفاخر و لا تذوق الكافيار، صار الناس سواسية أمام هذا الجبار ،كلنا نتوجس خيفة منه و حتى من اقرب الناس إلينا ، و كأنه يترائى لنا عبر وجوه أحبائنا و أقربائنا ، حاكما علينا بوضع مسافة تفصلنا عن بعضنا البعض ، كاشرا أنيابه أنه هو الحياة الجديدة التي علينا أن نعترف بها ، و كأنه وصي على البشرية يمكنه أن يقرر من يصيب و من يخطأ ، فصارت الكلمة له متحكما في أقدارنا ، راسما حدودًا جديدة للبشرية اختلط فيها الزماني مع المكاني و النفسي مع الجسدي ، قائلا لنا أنا قدركم و أنا القادر عليكم ، إنه المستبد العادل الذي لا يفرق بين حاكم و محكوم القادر على زعزعة العروش و الكراسي دون إراقة نقطة دماء.

لكن الأكيد أن هذا الفيروس المجهري حمل معه عدة أوجه حيث تمكنا من رؤيته من عدة زوايا ، فما حل بالعالم من تضرر في الاقتصاد و ما سيترتب عنه مستقبلًا من أزمات، ناهيك عن أعداد الضحايا و مدى الذعر النفسي الذي أصاب العالم أجمع ، إذ لم يعد لمفهوم القوة و التقدم معنى أمامه، فقلب الموازين حتى صارت البلدان التي كانت تعتبر قوى عظمى منهزمة و منكسرة أمام جبروته، مغيرًا بذالك مفهومنا حول موازين القوى الاقتصادية و الترسانة العسكرية التي صارت في هكذا ظرف هي الجنود من أطباء و ممرضين و من تجهيزات طبية ..

أزمة الكورونا كشفت لنا ضعف المنظومة الصحية للدول التي تفشى فيها المرض ،و ما ترتب عنه من أزمة لوجستية بسبب الخصاص في عدد الأقنعة و أجهزة التنفس ، و التي كان لها دورا في تحديد فرص الحياة و الموت بالنسبة للمصابين ، لكنها في الأن نفسه أماطت اللثام عن العديد من الدول في علاقتها بما تدعيه من القيم الإنسانية و الديمقراطية التي تشدقت بها الأنظمة الرأسمالية، و التي أثبتت ضعفها في مواجهة الأزمات و هو مؤشر عن خلل في سياساتها .

إن هاته الظرفية التي يمر منها العالم و التي أبانت عن عدم حكامة بعض الساسة في اتخاذ القرارات و التي جاءت متأخرة ،كما حدث في إيطاليا و إسبانيا و خاصة هاته الأخيرة التي تعرف مناطق حكم ذاتي و ما له من تبعات ،حيث يمكن أن يتسبب هذا الظرف الذي تعيشه مستقبلًا في فوضى سياسية في المملكة الإسبانية ،فالشعوب في الأزمات تكتشف قصور منظومات الصحة و النقل و التعليم …

أمام رياح التغيير التي عصفت الشعوب جراء كورونا، و كان فيها العنصر البشري هو المتضرر الأكبر من التداعيات الإقتصادية و الإجتماعية، لكن ما يمكن قوله هو أن ما نعيشه هو تجربة فريدة في تاريخ البشرية ، سيتم على إثرها إعادة قراءة المشهد الجيوسياسي و السوسيولوجي ، فرغم الخسارة التي تكبدها العالم من أرواح و ما زال هذا الوباء يحصد في أرواح أخرى ، لكن أعتقد أن البشرية ستكتسب مفهوما جديدا للإنسانية و للعالمية ،و ستجد الأسرة البشرية نفسها في العالم ككل تطرح نفس الأسئلة التي تشغلنا جميعا عن الزمن ما بعد الكورونا كيف سيكون و ما يجب أن يكون عليه ؟..

سيعرف العالم مرحلة انتقالية في تاريخ البشرية ، ستحدث فيها تحولات سوسيولوجية و ستكون فيها التنمية الحقيقية في العنصر البشري ،و سيتجاوز العالم انقسام الخطابات بين الخطاب الديني الذي يرى أن الكورونا هي مشيئة الله في عباده ،و بين الخطاب العلمي الذي يفسر هذا الوباء على أنه تطور طبيعي للفيروس، و ما سيهم البشرية لاحقًا هو مستقبل هذا الكوكب الذي يجمعنا باختلافاتنا ، حيث سيصبح مفعول الكورونا الحقيقي هو شل أفكارنا المسبقة حول هذا العالم بامتداده واضعة إياها في الحجر الفكري كي نتخلص من الفيروسات التي سكنت عقولنا لعقود و قرون من الزمن جيلا بعد جيل…

الأكيد أن الزمن الكوروني جعلنا رهائن بين الجدران ، لكنه حررنا من المعتقدات البالية و المتوارثة و التي ستتغير معها علاقة الفرد بالدين ، حيث سيتم التخلي عن سلطة رجال الدين و هذا لا يعني الإلحاد بل سيمارس الفرد معتقداته دون وساطة رجال الدين و ستكون علاقة الفرد بالإلاه أكثر قوة ، فبعد أن أسقط هذا الفيروس المجهري مفهوم المقدسات جاعلًا من البيع و الكنائس و المساجد بيوتا خالية و كأنه أراد أن يقول لنا أن الكلمة له اليوم ، حاكما على طقوس الجنائز بالإعدام حتى صار الموتى سيان بين الأمم ، صانعًا نواميسه يحكمنا بها ، فجعل رجالات الدين يتوارون خلف أحاديثهم كما تتوارى أرجلهم خلف جلابيبهم الفضفاضة كما فضفضة كلامهم العقيم ، واضعًا بذالك كل شيء في نصابه الحقيقي ، كاسرًا السلاسل التي قيدت البشرية لألاف السنين من معتقدات و طقوس واهية ،عاملا على تغيير مفاهيمنا اللغوية و الفكرية ، فلا دعوات حاخامتنا و رهباننا و فقهائنا شفعت للبشرية ، و عليه سيرتكز العالم على صولجان العقل و ستتهاوى معه مكانه رجال الدين ، ففي النهاية كلنا نجيد الدعاء لكن البشرية تعيش ظرفية من يصنع الفرق .

اليوم سيسقط مفهوم الرموز و ستسقط معها تماثيل الزعماء و الساسة، و ربما سيأتي حين من الدهر سيحل محلها نصب تؤرخ لذكرى أسماء أطباء و علماء أفنوا حياتهم من أجل إنقاذ أرواح الناس ، زارعين فينا أملا نحو قادة جدد من أهل العلم قادرين على قيادة البشرية نحو عالم أفضل ، و سيتغير معها مفهوم النضال و البطولة و التي بفضلها سيحمل العالم و الطبيب لقب أيقونة الكفاح ، فلن تكون الحرب كما السابق لكنها ستكون حربا من أجل بقاء و نقاء الجنس البشري .

إن العزلة التي فرضها علينا هذا الوباء لم تعزلنا عن العالم و ما يدور فيه بل جعلتنا نكتشف حقيقة العالم الذي نسكنه و يسكن فينا ، لقد حان الوقت لرسم خريطة جديدة للجنس البشري حيث سيسود النظام العالمي الجديد الذي سيحكم البشرية أساسه العلم ، سيكون عصر الفكر و الطب دون منازع ،إنه البعث الجديد الذي ستشهده البشرية .

رغم كل الألام التي جلبها لنا هذا الفيروس المجهري و ما تسبب فيه من شتات داخل العزلة التي فرضها علينا ، لكنه الأكيد أنه سيحمل معه خيرًا للبشرية ،فما يمكن قوله عنه أنه جاء في حلة سفر عبر الزمن، حيث قلص المسافة الزمنية التي تلزمنا للمرور لمرحلة الكيان الواحد الذي سيوحد الإنسانية جمعاء عاجلًا أم أجلًا ، بعيدا عن حسابات أهل السياسة و الإقتصاد ،حيث سيتغير معها مفهوم الحدود و الجغرافيا و الهجرة و مفهوم القوى العظمى ،لقد حاول أن يقدم لنا صورة عن حقيقة العالم و منحنا فرصة لإعادة تقييم الذات و المجتمع ككل .

في كل الأزمات و الحروب و الإنكسارات يبقى الأمل مشروعا و مباحًا، لكن الحلم الذي تنشده البشرية سيكون رهان ستعمل على تحقيقه الأجيال القادمة، من ينتظرها عالم أفضل حيث ستنشأ في كنف القدر المشترك للإنسانية جمعاء، قدر تسوده العدالة و المساواة و السلم، نحن فقط سنرسم لهم خط الأمل للغد المشترك للجنس البشري و سيكون عليهم تتويج هاته الأحلام و تحقيقها ، و تبقى ترجمتها رهينة الوقت الذي علينا أن نمنحهم إياه لميلاد هذا العصر الجديد.

رابط مختصر
2020-03-31
أترك تعليقك
0 تعليق
*الاسم
*البريد الالكترونى
الحقول المطلوبة*

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

شروط التعليق : عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

ان كل ما يندرج ضمن تعليقات القرّاء لا يعبّر بأي شكل من الأشكال عن آراء اسرة العربي الأفريقي الالكترونية وهي تلزم بمضمونها كاتبها حصرياً.

حاتم عبدالقادر