“توفلر” وعالم ما بعد أزمة “كورونا”

آخر تحديث : الأحد 19 يوليو 2020 - 2:41 مساءً
بقلم: أ.د/ علي الدين هلال
بقلم: أ.د/ علي الدين هلال

تذكرت ونحن نقرأ عشرات الدراسات والتحليلات عن مستقبل العالم بعد وباء فيروس كورونا، الاسهام الفكري الرصين للمؤلف الأمريكي آلفين توفلر الذي هز الأوساط العلمية والثقافية بثلاثيته الشهيرة: “صدمة المستقبل” 1970، و” الموجة الثالثة” 1980، و”تحول القوة” 1990. فقد مثلت هذه الكتب نقلة أساسية ومهمة في التفكير بشأن المستقبل والتخطيط له والتعامل معه.

كان توفلر أحد أهم مُفكري المُستقبليات وعلوم المُستقبل في القرن العشرين. فنجدُ في كتاباته مزيجًا مُبدعًا من المعرفة بالتاريخ الاجتماعي والاقتصادي والسياسي، ومُتابعة دقيقة للتطورات العلمية في مجالات شتى كالهندسة والطب والعلوم والاقتصاد والإدارة، واستشراف خلاق لآفاق تلك التطورات ولتأثيراتها في حياة الأفراد والمُجتمعات مُستقبلًا.

كتب توفلر أن العالم يتحول من المجتمع الصناعي إلى المجتمع ما بعد الصناعي وقوامه المعلومات والمعرفة والذكاء البشري. وتضمنت مؤلفاته العديد من التنبؤات التي تحققت على أرض الواقع مع بداية القرن الحادي والعشرين، ومنها اشاراته إلى عصر المعلوماتية، والحاسبات الشخصية، واقتصاد المعرفة، والتكنولوجيا الرقمية، والروبوتات، والتقنيات الحيوية، والطاقة المتجددة، وبحوث الفضاء والاتصال والالكترونيات الدقيقة. ومنها أيضًا، تنبؤ توفلر بأن التقدم التكنولوجي سوف يُمكنُ البشر من التواصُلِ عن بُعد وتبادل الرسائل بينهم. وهي كلها تصورات تحققت وأصبحت على رأس قائمة جدول أعمال الدول ومراكز البحوث والصناعة.

ولهذا، ذاعت شهرة توفلر وأفكاره، وتُرجمت كتبه إلى عشرات اللغات ومنها العربية، وتم انتاج فيلم وثائقي في عام 1972 باسم صدمة المُستقبل بصوت أورسون ويلز وهو أحد أهم مُمثلي الدراما في القرن العشرين. لقد توفى الرجل في27 يونيو 2016، ولكن منهجه في التحليل وأفكاره الثاقبة تظل مناسبة لفهم التحولات التي تتسارع من حولنا. فماذا يقول الرجل؟ يقول إن التغيُر هو الحقيقة الرئيسية في الحياة، والذي يُصيب كُل مجالات الحياة، وتمتد تأثيراته إلى حياة الأفراد والجماعات والمؤسسات. وأن مُفردات هذا التغير تتلاحق بوتيرة مُتسارعة لم تشهدها البشرية من قبل، وهو ما وصفه توفلر بتعبير” الوصول المبكر للمُستقبل”. وأن العالم القديم الذي تعود عليه الكثير منا يتهاوى وتنهار أركانه تحت وطأة مُبتكرات التكنولوجيا المُعاصرة وخصوصًا في مجال تقنيات المعلومات والتواصل الإنساني. يتسم هذا التغيُر بطابعه “الديناميكي اللاخطي “، فخلافا للتطور الخطي الذي يتبع مسارًا واحدا ويتطور بوتيرة مستقرة ومنتظمة، فالتطور الراهن يتحرك في مسارات مُتعددة وبسرعات مختلفة وفي اتجاهات لا يمكن حصرها سلفا.

ويقول إن هذه التغيرات العميقة والسريعة واللاخطية تُمثلُ “صدمة المُستقبل” للأفراد والمُجتمعات والدول الذين لم يكونوا مُستعدين لاستقباله، فبدا وكأن المُستقبل أخذهم على غِرة. وتؤدي هذه التغيُرات إلى ما سماه توفلر ب “التحميل النفسي الزائد على الأفراد”، مما يخلقُ مُشكلة “تكيف” بينهم وبين العالم الذي يتغير من حولهم. وأشار إلى النتائج النفسية والاجتماعية السلبية لعدم التكيُف مثل: انتشار مُعدلات الجريمة والانحرافات الاجتماعية، واهتزاز قيم الأُسرة والتضامن العائلي، والعُزلة الاجتماعية. ودعا توفلر المجتمعات والدول إلى تطوير قدرة مؤسساتها وأفرادها على” التكيف”، لان الأوضاع الجديدة تطرح أسئلة وتحديات جديدة لم يكن الكثير يتصور إمكانية حدوثها، وهو ما يتطلب سياسات اجتماعية، وأساليب وطرق انتاج، وصناعات وحرف وخدمات جديدة. ووصل من ذلك إلى نتيجة مُهمة وهي أن القيمة العُليا في ثقافة المُجتمعات المعاصرة ينبغي أن تكون هي قُدرات التجديد والابتكار والتكيف مع التغيير وإدارته. أ درك توفلر أن توفير هذه القُدرات ليس أمرًا يسيرا. فأشار إلى أهمية إعداد الإنسان لهذه التغيرات ودور أدوات التنشئة الاجتماعية والسياسية ونظم التربية في تحقيق ذلك. ألح أيضًا على ضرورة تنمية قدرات التفكير النقدي والفكر الإبداعي وإطلاق طاقات الخيال لدى النشء والشباب، وأهمية ” التعلم المستمر” أو ” التعلم مدى الحياة”.

ويقول إن قدرات الأفراد والمؤسسات ونظم الحكم على التكيُف مع الأوضاع الجديدة ترتهن بمدى انخراطهم في الموجة الثالثة للحضارة الإنسانية وهي الحضارة الرقمية. ووصف توفلر المُجتمعات التي تُحقق ذلك باسم “مُجتمعات الموجة الثالثة”، والتي تتسم باعتمادها على المعلومات والمعرفة. ومن ثَم، فإنها تقوم على مصدر متجدد ولا نهائي وهو عقل الإنسان. فخلافًا للموجة الأولى (الزراعة)، والموجة الثانية(الصناعة)، اللتان اعتمدتا على مصادر ناضبة للطاقة كالفحم والنفط، فان الموجة الثالثة تعتمد على مورد غير ناضب وهو التدفق اللامتناهي واللامحدود للمعرفة والأفكار. وأنه سوف يكون من شأن ذلك تغيير نظم الحكم وأساليب الإدارة بحيث تتجه أكثر إلى اللامركزية وتحول العلاقات في داخل المؤسسات من ” الهرمية” وتركيز السلطة في المستويات العليا إلى ” الشبكية” وإعطاء حرية أكبر للوحدات في المبادرة واتخاذ القرار وازدياد التفاعل بينها.

ويقول توفلر إن مصادر القوة سوف تتغير في ظل مُجتمعات الموجة الثالثة والحضارة الرقمية. وحسب قوله، فإن المصادر التقليدية للقوة كالمال والأسلحة سوف تتراجع ليحل محلها المعلومات والمعرفة باعتبارهما وأساس التقدم في القرن الحادي والعشرين. وأثبتت التطورات صحة هذا الرأي، فأصبحت “الأفكار المبتكرة” و”ريادة الاعمال” هما موتور التقدم الاقتصادي في مجالات الإنتاج والتوزيع والخدمات، كما أصبح الذكاء الاصطناعي هو عماد نظم التسليح الجديدة.

وأفكار توفلر هذه ليست بعيدة عما نواجه اليوم، فقد خضع العالم في النصف الأول من عام 2020 لإجراءات احترازية كانت أحيانًا شديدة الوطأة، وابتداءًا من شهر يونيو بدأت هذه الإجراءات في التراجع وبعضها انتهى أو أوشك على الانتهاء، وبعضها الآخر سوف يستمر معنا لشهور قادمة بسبب احتمالات عودة انتشار المرض ولعدم الوصول إلى مصل للحماية منه. وكُلها أوضاع قلقة ومُتغيرة. ومن الأرجح، أن بعض الدول والمُجتمعات سوف تشجع استمرار بعض الاجراءات التي فرضتها ظروف الازمة لما ثبت فيها من منافع كالعمل من المنزل والتعليم عن بُعد، وقد تبتدعُ مُجتمعات أُخرى طُرقًا جديدة للتعليم والإنتاج والصحة. والمجتمعات الحية سوف تعمل على الاستفادة من تجربة فرض الإجراءات الاستثنائية وتستخلص دروسها و”تتكيف” مع التغييرات التي احدثتها، وتستعد للتعامل مع التغييرات القادمة، فالحقيقة الأساسية في الحياة هي التغير.

* أستاذ العلوم السياسية بجامعة القاهرة ووزير الشباب الأسبق.

رابط مختصر
2020-07-19 2020-07-19
أترك تعليقك
0 تعليق
*الاسم
*البريد الالكترونى
الحقول المطلوبة*

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

شروط التعليق : عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

ان كل ما يندرج ضمن تعليقات القرّاء لا يعبّر بأي شكل من الأشكال عن آراء اسرة العربي الأفريقي الالكترونية وهي تلزم بمضمونها كاتبها حصرياً.

حاتم عبدالقادر