يرحل عـامٌ ويحـلُّ عـامٌ يحمل حقيبةً مقفلة ، وليس هناك مَـنْ يفكّ رموزها .
ويظلّ لبنان في هذا الزمان مثقلاً بالعواصف الهوج ، ونظلّ نتمنّى أنْ يعود إلينا لبنان الذي كان .
على عهد مظالم بني عثمان قال الشاعر الياس أبو شبكة :
أرجِـعْ لنا ما كانْ
يا دهرُ في لبنانْ
وعلى عهدِ آخـر عهـدٍ ، كادَ لبنان ينزح نحو الآخـرة .
يـوم ناشد أبو شبكة الدهر ليرجع لبنان كما كان … كان في لبنان رجالٌ دهرّيون .. فعـاد .
واليوم نناشد الدهر ، فإذا الرجال يتقهقرون أشباحاً بين الأحزاب والنواب ، ولست أدري متى لبنان يعـود .
ماذا ينتظرنا في العام الجديد ..؟
هل تستمرُّ جاهلية “سوق عكاظ” في عرض أنواع البضائع والمقايضة التجارية والإتجار بالعبيد ، فيما “النابغة الذبياني” يستمع إلى القصائد ويحكم بين الشعراء …؟
وهل تتكرّر مسرحية انتخاب رئيس للجمهورية من خميسٍ إلى خميس ، كأنّنا أمام مسلسل تركي كلّما تراكمت حلقاته ، إزدادتْ مشاهداته ..؟
من حـقّ أولياء الأمر أن يستغرقوا في البحث والدرس ، ويغوصوا في الإستنباط العقلي والجهد الفكري لأنّ الرئيس حسب المثل اللاّتيني هو رأس السلطة ، وفي السلط كما في الجسم ، الأمراض الأكثر سوءاً مصدرها الرأس .
ولكن ، ليس من حقّهم أنْ يغرقوا في التصّورات الفلسفية والمتاهة الجدليّة حول نصوص الدستور ، وكأنّ الرئاسة روحٌ خاضعة للتبصُّر الفلسفي الكهنوتي.
يقول الفيلسوف والمفكّر الإلماني “كانط” في كتابه “الفلسفة السياسية – ص: 13” “إنّ المشترع لا يستطيع أن يسنّ لشعبٍ ما القانون الذي لا يسنّـه لنفسه ..”
ويقول المفكرّ اللبناني جبران خليل جبران : في كتابه “النبي – ترجمة مخايل نعيمه – ص : 55 – 56 :”
تجدون لـذّة في سـنّ القوانين ، ولكنَّكم تجدون لـذّة أعظم في انتهاكها” .
إنَّ “الأعمال بالنيّات” هي القاعدة الأكثر انطباقاً على التشريع ، لأنّ المشترع لا يضـع نصّاً يحتمل التأويل السلبي ، حتى إذا ما شئتَ أنْ تتناول التأويل الرمزي أو المجازي في الكتب المقدسة في معزل عن الباطن ، ورحت تبتكر حولها اجتهادات ذهنية مشوّشة يُخيَّـلُ إليك أنّ الكتب السماوية تتعارض مع مشيئة اللـه .
من المريب أنْ يستمرّ المجلس النيابي أشبه ببرج بابل دستوري ، هذا يريد رئيساً سياديّاً ، وذاك يريد رئيساً ممانعاً ، وذلك يريد رئيساً ثالثاً ضـدّ مرشحيَنْ ، وهناك المـمرّ الرئاسي الإلزامي ، وهنالك مرشح مستتـر فوق الممـرّات ، ويظلّ الرئيس مع هذا وذاك مرشحاً في المنفى ، ويظلّ القصر متحفاً للتماثيل .
جمهورية بلا رئيس ، وحكومة بلا ثقـة ، وسلطة بلا سلطة ، وقضاء أجنبي يطارد أوكار الفساد اللبناني ، وأمـنٌ متفلّت يعلّم الناس الحرام ، وأولياء الأمر يتقاتلون على جلد الدبّ قبل اصطياد الـدبّ ، بين مجنونٍ بشيطان السياسة، ومسكون بشيطان الرئاسة ، فيما الشعبُ يُقتل ويتقاتل ويقاتل على رمَـقِ الحياة وحبوب القمح وحبوب الدواء والجلاّد يتقبّل التعازي بالضحية .
ألموت حسب الإصطلاح الفلسفي لا يعني تحديداً نهاية الحياة ، فاليأسُ المطلق مـوتٌ ، والقلق على المصير والخوف من المرض ، والحزن والألم والفقر والجـوع والشقاء والـذلّ هو مـوتٌ أيضاً .
تمثِّلون الشعب …؟ فإمّـا أن تُنقذوا فيه الحياة ، وإمّا أن تتمثَّلوا بهِ في الموت.
*كاتب المقال: وزير لبناني سابق.