ها هي الضربة الإيرانية تهبط، لا كصاعقة، بل كصفعة متأخرة على وجه لم يستح يوماً من جرائمه. وفيما الدخان يتصاعد من فوق تلّ أبيب، ترتجف أصوات في عواصم عربية كأنما أصابها المسّ، لا من فداحة الجريمة الصهيونية بحق إيران وشعبها، بل من جرأة الرد.
وكأنّ الفعل الوحيد المباح هو ما يصدر عن “الكيان”، أما غيره فإرهابٌ وتعدٍ وخروج عن “الإجماع الدولي”!.. أي مهزلة هذه التي تكتبها وسائل الإعلام التي تلبس ثوب الحياد وهي تغزل خيوط التواطؤ؟ أين المهنية حين تصبح المجازر “دفاعاً عن النفس”، ويغدو الدفاع عن السيادة “إستفزازاً”؟ من يقرأ المشهد اليوم يعلم أن الكيل طفح، وأن من يضرب، لم يعد يضرب من منطلق إستعراض القوة بل من منطلق اتّقاء الذل.
لقد إعتادت المنطقة، منذ أن أُغتصبت فلسطين، أن تعيش على إيقاع الإنفجارات القادمة من الكيان الغاصب، كل عدوان جديد له مبرراته الجاهزة، كل جريمة تجد من يبرّرها بعبارات مقرفة من قبيل: “الرد المناسب”، “العملية المحدودة”، أو “الضربات الوقائية”.
لكن، متى كان القاتل بحاجة إلى مبرر في قاموس هذا العالم المقلوب؟. ما بعد الضربة الإيرانية، لن يشبه ما قبلها. الرسالة وصلت إلى عُمق المنظومة الصهيونية؛، أن هناك ثمناً سيُدفع، حتى لو تآمر العالم بأسره على كتم الصوت الذي نطق. إيران رغم كل ما يُقال عنها، أثبتت أنها اللاعب الوحيد الذي لا يتقن فن الإنحناء للعاصفة، بل يواجهها، بكل ما في ذلك من مخاطرة وإشتباك مع التوازنات الدولية الرثة.. أما الكيان الإسرائيلي، فماضٍ في غيّه، في تغوّله على غزة، في عنجهيته على لبنان، في إحتقاره لكل عرف دولي أو قانون إنساني.
غير أن معادلة الردع تتبدل رويداً رويداً، ومع كل صاروخ يسقط في عمق الكيان، تسقط معه أسطورة “الجيش الذي لا يُقهر”، و”القبة التي لا تُخترق”… ويبقى السؤال المرّ، الأكثر وجعاً، ماثلاً؛ إلى متى ستظل الأنظمة العربية شهود زور؟ إلى متى هذا الصمت المجلجل الذي يكاد يكون شريكاً في كل قطرة دم تسيل؟ متى سيتوقف هذا اللهاث المخزي وراء رضا الغرب، حتى على حساب الكرامة، والسيادة، ودماء الأبرياء؟ لا مبرر للصمت بعد اليوم، ولا عذر للحياد في زمن تتقيّأ فيه الحقيقة على شاشات كل مساء.. ما يجري ليس مجرد مناوشات حدود، بل إشتباك وجود. وكل من يتقاعس عن تسمية المعتدي بإسمه، ويساوي بين الضحية والجلاد، لا مكان له في صفّ الشرفاء، مهما إرتدى من مسوح الوطنية.
قد لا تكون النهاية وشيكة، لكنّ التحوّل بدأ. والدم حين يصرخ، لا بد أن يُسمع، حتى لو حاول كل الإعلام المأجور أن يُسكته. ومع الوقت، سيتكشّف الغبار عن مشهد جديد، حيث لم تعد الكلمة العليا للكيان، ولا السلاح حكراً عليه، ولا السماء محرّمة على من قرر أن لا يموت بصمت.
*كاتب المقال: إعلامي لبناني.