في قلب التوترات الدولية والتحولات الجيوسياسية التي تعصف بالعالم، تتقاطع خيوط المصالح بين ثلاث قوى غير متجانسة من حيث الأيديولوجيا لكنها مرتبطة بحقائق الجغرافيا والسياسة،؛ الصين، إيران، والكيان الإسرائيلي”. هذا المثلث المعقد يُشكّل اليوم أحد أبرز ملامح التوازن المتغير في منطقة الشرق، ليس فقط على مستوى العلاقات الثنائية، بل على مستوىٰ إعادة تشكيل التوازنات الإقليمية والدولية في ظل نظام عالمي آخذ في التشظي… تقدمت “الصين” بثبات نحو موقعها الجديد كقوة عالمية وازنة، ليس فقط بفضل إقتصادها الضخم، بل بفضل إستراتيجيتها الدقيقة في بناء النفوذ عبر الأدوات غير التقليدية. مشروع “الحزام والطريق” هو العنوان الأبرز لهذا النفوذ، حيث تتغلغل “بكين” عبره في عمق الشرق الأوسط وآسيا، حاملة شعارات التنمية والتعاون، لكنها في جوهرها تبني ممرات إستراتيجية تربط أمنها القومي بمصالحها الخارجية. في هذا السياق، تجد “الصين” نفسها مضطرة لإدارة علاقاتها مع أطراف متناقضة كـ “إيران والكيان الإسرائيلي”، دون أن تخسر أحدهما.
“إيران”، التي تخوض صراعاً طويل الأمد مع الغرب، وجدت في “الصين” شريكاً موثوقاً يدعم صمودها إقتصادياً ويمنحها غطاء سياسياً دولياً. الإتفاق الإستراتيجي بين “طهران وبكين”، والذي يمتد لعقود، يتضمن إستثمارات بمليارات الدولارات في مجالات الطاقة والبنية التحتية، ويُعد مؤشراً على عمق الرهان الإيراني على الشرق، بعيداً عن بوابة الغرب التي باتت موصدة بفعل العقوبات والإنقسامات. وفي المقابل، لا تخفي الصين مصلحتها في تأمين إمدادات الطاقة، وفي الإبقاء على إيران كجزء من منظومة الردع غير المباشر في وجه الضغط الأميركي… أما الكيان الإسرائيلي، الحليف الأول “للولايات المتحدة” في الشرق الأوسط، فيعيش معضلة إستراتيجية. فهي من جهة تدرك أهمية العلاقات مع “الصين” في مجالات التكنولوجيا والتجارة، لكنها من جهة أخرى تخضع لضغوط أميركية صارمة لتقليص هذا التعاون، خاصة في القطاعات الحساسة، والأمن السيبراني.
“بكين” ينظر “الكيان إسرائيل” كمنصة تكنولوجية متقدمة، وقد حاولت مراراً وتكراراً تعزيز إستثماراتها هناك، إلا أن الإصطدام الدائم بالفيتو الأميركي يجعل العلاقات بين الطرفين متذبذبة، لكنها قائمة على حذرٍ متبادل… هذا التوازن المعقّد بين “الصين”، إيران، والكيان الإسرائيلي”، يعكس تحوّلات أعمق في الإقليم. فدول المنطقة لم تعد مجرّد أدوات في لعبة الكبار، بل باتت تمارس إستقلالية نسبية في بناء تحالفاتها، مستفيدة من حالة السيولة التي يشهدها النظام الدولي. “السعودية”، على سبيل المثال، فتحت قنوات موازية مع “الصين وروسيا”، دون أن تقطع حبالها مع واشنطن. و”الإمارات وتركيا” تتجهان نحو سياسات خارجية مرنة، تجمع بين البراغماتية الإقتصادية والحذر الأمني… في ظل هذه التحولات، تحاول “الصين” أن تملأ الفراغ الذي تتركه واشنطن تدريجياً، لكن بأسلوب مختلف.
فهي لا تتدخل في شؤون الدول، ولا تفرض نموذجاً أيديولوجياً، بل تعرض شراكة قائمة على المنفعة المتبادلة. هذه المقاربة تجد صدىً لدى العديد من الأنظمة في المنطقة، التي تعبت من الإملاءات الغربية وتبحث عن شراكات أكثر توازناً واحتراماً للسيادة… وفي المقابل، يبقىٰ “الكيان الإسرائيلي” حذر من تعاظم الدور “الصيني” في جوارها، خاصة إذا ترافق مع دعم متزايد “لإيران” أو حضور إقتصادي مكثف في موانئ البحر الأحمر والمتوسط. وهي تدرك أن التغيرات الجارية قد تؤدي إلى إعادة رسم خطوط النفوذ في المنطقة، بما لا يخدم مصالحها الإستراتيجية، خصوصاً إذا ما تقلّص الإعتماد العالمي على “الولايات المتحدة” كضامن للأمن في المحصلة، فإن لعبة التوازن بين “الصين، إيران، وإسرائيل” ليست معركة نفوذ فحسب، بل هي مؤشر على ولادة نظام إقليمي جديد، أكثر تعقيداً وأقل قابلية للتنبؤ. هذا النظام لا يُدار من عاصمة واحدة، بل تُنسج خيوطه بين “بكين وطهران وتل أبيب”، مروراً “بالرياض وأنقرة وأبو ظبي”.
وفي الوقت الذي تتغير فيه قواعد اللعبة، تبقى المصالح هي الحَكَم الأول والأخير، فيما تترقب الشعوب مستقبلاً لا يزال ضبابي الملامح، لكنه بالتأكيد يبتعد شيئاً فشيئاً عن عالم الأمس.