مجاعة غزة”.. سلاح فتاك يقتل في صمت وبأقل تكلفة

كيف تحولت المجاعات إلى السلاح الأرخص عبر التاريخ؟

آخر تحديث : الثلاثاء 22 يوليو 2025 - 12:44 صباحًا
مجاعة غزة”.. سلاح فتاك يقتل في صمت وبأقل تكلفة
فاطمة خليفة:

>> مجاعة غزة تخطت حدود التاريخ والجغرافيا.. وبث يومي على الهواء دون خوف أو خجل

>> غزة تشهد أسوأ أزمات الجوع في التاريخ المعاصر

>> مجاعة البطاطس الأيرلندية أماتت نحو 1.5 مليون شخص وهجرة مليون آخرين

>> حرب البنغال أودت بحياة حوالي 3 ملايين مواطن في عام 1947 كنتيجة سيئة للحرب العالمية الثانية

>> هولودومور.. واحدة من أبشع المجاعات في التاريخ الأوكراني التي راح ضحيتها من 3.5 إلى 7 ملايين مواطن

>> “الكوارث الطبيعية الثلاث” تودي بحياة ما يقرب من 40 مليون صينيا بين عامي 1959 و1961

>> جميع سكان غزة يعانون انعدام الأمن الغذائي الحاد

تخطت المجاعة في غزة حدود التاريخ والجغرافيا، فعبر قرون من التاريخ الإنساني،لم يشهد العالم مجاعة بهذا الحجم وهذه الفجاجة التي تبث على الهواء مباشرة دون خوف أو خجل، تكررت مأساة المجاعات عبر التاريخ بوجوه مختلفة وأسباب متشابهة، ولكن اشتركت جميعها في سياق واحد، فكانت جميعها نتاج البشر وليست نتاج الطبيعية، واليوم، بينما يشهد العالم مجاعة غزة، تعود أصداء التاريخ لتذكرنا بأن الجوع قد يكون أفتك الأسلحة وأرخصها ثمناً، وفي هذا التقرير نكشف تاريخ أشهر المجاعات ونحلل أسبابها ونتائجها.

من حقول أيرلندا المحروقة إلى شوارع غزة المحاصرة؟

صفحات التاريخ مليئة بقصص مؤلمة عن ملايين البشر الذين سقطوا ضحايا للجوع عبر التاريخ. من حقول البطاطس المدمرة في أيرلندا في القرن الـ19، إلى سهول أوكرانيا المحروقة في ثلاثينات القرن الحالي، وصولاً إلى شوارع غزة المحاصرة اليوم، تتكرر المأساة ذاتها، فالبشر يموتون جوعاً ليس بسبب عدم وجود الطعام، بل بسبب عدم وصوله إليهم، واليوم في عصر الثورة التكنولوجية والوفرة الغذائية العالمية، تشهد غزة واحدة من أسوأ أزمات الجوع في التاريخ المعاصر.

مجاعة البطاطس الأيرلندية

تُعتبر مجاعة البطاطس الأيرلندية، المعروفة باسم المجاعة الكبرى، واحدة من أكثر الكوارث الإنسانية تأثيراً في التاريخ الأوروبي. بدأت المأساة عام 1845 عندما أصيبت محاصيل البطاطس بنوع خطير من الفطريات في أيرلندا، حيث كانت البطاطس هي الغذاء الأساسي الذي كان يعتمد عليه ثلث سكان أيرلندا.

الآفة التي أصابت محصول البطاطس أشعلت الشرارة الأولى للمجاعة ولكن سياسات الحكومة البريطانية آنذاك حولتها إلى مجاعة مأساوية تاريخية، حيث استمرت بريطانيا في تصدير البطاطس أثناء المجاعة، متجاهلة معاناة الشعب الأيرلندي مما أدى إلى نقص الغذاء وانتشار الجوع. بالإضافة إلى عدم تدخلها لإنقاذ الضحايا.

أشارت التقارير إلى أن عام 1847، المُلقب بـ”الأسود 47″، شهد وفاة 400,000 شخص على الأقل، بينما تتراوح التقديرات الإجمالية للوفيات بين 1.5 إلى مليوني شخص، مع هجرة مليون آخرين خارج البلاد.

مجاعة البنغال

شهد عام 1943، مجاعة مدمرة ضربت منطقة البنغال التي تقع تحت الحكم البريطاني، وصل عدد ضحاياها إلى ما يقرب من 3 ملايين شخص ماتوا جراء المجاعة والأمراض المصاحبة لها.

كانت هذه المجاعة نتاج الحرب العالمية الثانية، والظروف المناخية السيئة، التي أدت إلى صعوبة الإمداد. كما ساهمت سياسات الحكومة البريطانية، في تحويل المجاعة إلى كارثة مأساوية إذ رفضت الحكومة الاعتراف بوجود مجاعة، ولم تقدم المساعدات اللازمة مما فاقم الكارثة.

هولودومور أوكرانيا المجاعة الوحشية

هولودومور أو القتل جوعاً هي واحدة من أبشع المجاعات في التاريخ، فهي بمثابة إبادة جماعية مُتعمدة ضد الشعب الأوكراني قام بها النظام السوفيتي إبان حكم ستالين، في العامين 1932 و1933، حيث تعرضت أوكرانيا إلى سياسات مصادرة المحاصيل ومنع الحصص الغذائية من قبل الحكومة السوفيتية لكسر المقاومة الأوكرانية، مما أدى إلى وفاة ما بين 3.5 إلى 7 ملايين أوكراني خلال هذه المجاعة، وفق أشهر التقديرات.

المجاعة الصينية الكبرى

شهدت الصين في الفترة بين 1959-1961 أسوأ مجاعة في تاريخها المعاصر، والتي تُعرف رسمياً باسم “الكوارث الطبيعية الثلاث” تتراوح تقديرات ضحاياها بين 15 إلى 40 مليون شخص، مما يجعلها أسوأ مجاعة في التاريخ البشري إذ كانت نتاج بشري في الأساس من خلال السياسات الاقتصادية التي وضعها ماو تسي تونغ. والسياسات الزراعية الخاطئة، والإبلاغ الكاذب عن المحاصيل، ورفض الاعتراف بالأزمة.

هل المجاعات نتاج كوارث طبيعية أم إبادة جماعية؟

المجاعات متشابهة في مأساتها ومشاهدها وضحاياها عبر التاريخ، كما أنها متشابهة في دوافعها ومرتكبيها، إذ لعبت الغايات السياسية والسياسات الحكومية دوراً حاسماً في تحويل أزمة غذائية محتملة إلى مجاعة محققة، ومن هنا اتخذت بعض الأنظمة المجاعة سلاحاً فتاكاً يبيد بدون تكلفة ويقتل دون ضجيج، وهو ما تفعله إسرائيل اليوم في غزة.

الاحتلال والحصار

تتشابه مجاعة غزة مع بعض المجاعات التاريخية مثل مجاعة البنغال التي كانت نتاج الحرب والاستعمار من خلال منع وصول المساعدات الكافية. ومجاعة أوكرانيا، التي استخدم فيها الجوع كسلاح لقمع المقاومة السياسية. إذ يعد الحصار هو الآلية التي يتم بها تنفيذ المجاعة سواء كان مفروضاً من الخارج أو من الداخل. إذ يتم من خلاله قطع طرق الإمداد ومنع المساعدات الإنسانية من الوصول، وبذلك يختفي الغذاء وينتشر الجوع الذي يستهدف أجساد وعقول ونفوس المدنيين.

المجاعات لا تقتل الأجساد فقط، بل تدمر النسيج الاجتماعي بأكمله. حيث تؤدي إلى انهيار الدعم الاجتماعي، وتخلق موجات نزوح جماعية، وتهجير قصري وفوضى عارمة، يمتد أثرها في الأجيال اللاحقة. ويمثل الأطفال الضحية الأكبر الذين يعيشون المجاعة ويحملون آثارها في أجسادهم المتضررة، وذاكرتهم الجماعية.

غزة.. مجاعة العصر التكنولوجي

ما يفاقم من مجاعة غزة هو وقوعها في عصر العولمة والعالم الذي أصبح قرية واحدة بفضل ثورة الاتصالات والتكنولوجيا، فاليوم رغم الحصار والقيود، تصل إلينا صور وقصص من غزة عبر وسائل الاتصالات الحديثة لتُذكرنا بمسؤوليتنا كشهود على التاريخ، إذ أن كل صورة لطفل جائع، وكل تقرير طبي عن سوء التغذية، وكل شهادة لأسرة فقدت كل شيء، هي وثائق تاريخية شاهدة على الحدث. المجاعة تحولت إلى إبادة.

شهد عام 2024، واحدة من أسوأ أزمات الجوع في التاريخ المعاصر . ووفقاً لتقارير منظمة الأغذية زوالزراعة (الفاو) التابعة للأمم المتحدة، فإن مستويات الجوع الكارثية في غزة هي “الأسوأ على الإطلاق” في سجلات التصنيف المتكامل لمراحل الأمن الغذائي.

وصنف شمال غزة في المرحلة الخامسة (المجاعة) بأدلة معقولة، حيث يواجه 70% من السكان (حوالي 210,000 شخص) مستوى كارثي من انعدام الأمن الغذائي. إجمالياً، في حين يواجه 470,000 شخص في غزة جوعاً كارثياً، بينما يعيش جميع السكان حالة من انعدام الأمن الغذائي الحاد. هذه الأرقام تضع غزة في مرتبة متقدمة بين أسوأ المجاعات في التاريخ المعاصر، ليس فقط من ناحية العدد المطلق، بل أيضاً من ناحية النسبة المئوية للسكان المتأثرين، فقد كررت مجاعة غزة نفس الأنماط التي رأيناها في المجاعات التاريخية من استخدام الجوع كسلاح، والحصار، ومنع وصول المساعدات الإنسانية.

من السياسات الاستعمارية في أيرلندا والبنغال، إلى الأيديولوجيات المتطرفة في أوكرانيا والصين، إلى الحصار والقصف في غزة اليوم. كانت هناك علامات إنذار مبكر تم تجاهلها أو رفضها من قبل السلطات المسؤولة. واليوم الجميع يصم أذنه عن إنذارات غزة المتأخرة وليس المبكرة، ووفقاً لخبراء الأمم المتحدة، فإن “العالم كله كان يجب أن يتدخل مبكراً لوقف حملة الإبادة الجماعية بالجوع”.

كما وصف الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو جوتيريش غزة بأنها أصبحت “مقبرة للأطفال”. يُتوقع أن يواجه 71,000 طفل مخاطر شديدة بسبب سوء التغذية، وهو رقم يذكرنا بالأطفال الذين ضاعوا في مجاعات أيرلندا والبنغال.

بالنظر إلى تاريخ المجاعات، نجد أنها نادراً ما تكون “طبيعية” بحتة. فكان هناك دائماً التدخل البشري، سواء بالإهمال أو بالقصد، مما فاقم من الأزمة. كما أن نتائج المجاعات عبر التاريخ واحدة، وغزة اليوم، تُذكرنا بأن الإرادة السياسية تبقى العامل الحاسم. وان المجاعة ليست قدراً محتوماً، بل خيار سياسي. والجوع ليس كارثة طبيعية، بل سلاح بشري يستخدمه الاحتلال، وخطة ممنهجة للقضاء على أصحاب الأرض بأقل تكلفة ممكنة.

رابط مختصر
2025-07-22
أترك تعليقك
0 تعليق
*الاسم
*البريد الالكترونى
الحقول المطلوبة*

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

شروط التعليق : عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

ان كل ما يندرج ضمن تعليقات القرّاء لا يعبّر بأي شكل من الأشكال عن آراء اسرة العربي الأفريقي الالكترونية وهي تلزم بمضمونها كاتبها حصرياً.

حاتم عبدالقادر