طفرات نمو بين نتوءات التجاعيد

آخر تحديث : الجمعة 22 أغسطس 2025 - 7:50 مساءً
بقلم: ولاء عزو
بقلم: ولاء عزو

قد يظن البعض أن التجاعيد علامات وهنٍ وانطفاء، لكنها في الحقيقة أخاديد زمنية تختبئ بينها بذور حياة جديدة. البيوت ليست حجارةً صامتة، ولا جدرانًا جامدة كما يظن البعض. إنها كائنات حية تنمو وتشيخ مثلنا تمامًا. تبدأ صغيرةً فتية، جدرانها ملساء وألوانها زاهية، ثم تمضي بها السنون فتثقلها الذكريات، وتنقش على جدرانها علامات العمر. تتقوس الأسقف، وتتشقق الأرضيات، وتئن الأبواب كلما فُتحت، كأنها مفاصل قديمة تعبت من الحركة. قد يراها البعض مظاهر خراب، لكنها في حقيقتها شواهد حياة، تمامًا كما أن تجاعيد الوجه ليست عيبًا، بل دليل عمرٍ عميق عاشه صاحبه.

حين نشيخ نحن، نشيخ مع بيوتنا. في كل زاوية غبار تراكم، وفي كل صدع على الجدار، وفي كل مصباحٍ أصفر أرهقه الضوء… تختبئ قصة. البيوت تحفظ أسرارنا كما تحفظ أرواحنا، وتخزّن في أعماقها ضحكات الأطفال، وخطوات الأحبة، ودموع الفقد، ووقع الأمنيات التي تعلقت بأسقفها يومًا. حتى صمتها ليس صمتًا، بل لغة خاصة لا يسمعها إلا من عاش بين جدرانها طويلًا.

وفي قلب هذه البيوت، يسكن الأجداد. ليسوا مجرد صورٍ معلقة على الحائط، ولا أسماء منقوشة على أوراقٍ رسمية. الأجداد حضورٌ ممتد في التفاصيل: في رائحة الخشب القديم، في كرسيّ متهالك احتضن جلوسهم، في مصحفٍ تركوه على رف، في جملةٍ باقية على ألسنتنا دون أن ندرك أننا نكررها كما كانوا يقولونها. إنهم يقيمون فينا نحن، في ملامحنا التي ورثناها، في طباعنا التي تشبههم، في قيمٍ زرعوها فأصبحت أساسًا نبني عليه حياتنا.

الأجداد يعيشون في التجاعيد أيضًا: تجاعيد البيوت وتجاعيد الأنفس. نسمعهم في صرير الأبواب، وفي حفيف الأشجار التي غرسوها بأيديهم، وفي رائحة الخبز الذي تعلمناه من جداتنا. قد يغيب الجسد، لكن الروح تبقى متجذرة في الأماكن، كأن البيوت تحتفظ بهم لنا، كي لا يبتلعهم الغياب كاملًا.

ولأن البيوت حاضنة للأرواح، فإن مجرد زيارة الأحفاد لأجدادهم في تلك البيوت تصنع فارقًا لا يُقاس. هناك، بين الجدران التي شاخت، والأيادي التي خبرت الحياة، تحدث طفرات نموٍ سحرية في نفوس الصغار؛ يتعلمون ما لا تُعلّمه كتب، ويكتسبون ما لا تمنحه شاشات. إن زيارة بيت الجد ليست مجرد لقاء عابر، بل عبور إلى مخزن القيم والذكريات، إلى جذورٍ تشدهم للأرض وتمنحهم قوة لا يزرعها أي مكان آخر. ولهذا فإن البيت العجوز، برغم تصدعاته، يبقى مدرسة سرّية للأحفاد، يوجه نموهم، ويمنحهم بوصلة الحياة.

فلا تنتقدوا شيخوخة البيوت، ولا تظنوا أن الجدران المتشققة ضعف، أو أن الألوان الباهتة قبح. فهذه العلامات هي أوتاد مستقبلكم، وجذور ذاكرتكم، ومرآة ما أنتم عليه اليوم. البيوت القديمة تشبه الأجداد: ربما هزلت ملامحها، لكنها تحمل البركة والحكمة والدفء. والتجاعيد، سواء حفرتها السنون في وجوه الأجداد أو نقشتها الأيام على جدران البيوت، ليست أفولًا، بل بذور حياة جديدة تُزهر فينا كلما ظننا أننا نذبل… لتذكرنا أن الحياة لا تشيخ أبدًا، بل تعيد اختراع ذاتها فينا.

رابط مختصر
2025-08-22 2025-08-22
أترك تعليقك
0 تعليق
*الاسم
*البريد الالكترونى
الحقول المطلوبة*

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

شروط التعليق : عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

ان كل ما يندرج ضمن تعليقات القرّاء لا يعبّر بأي شكل من الأشكال عن آراء اسرة العربي الأفريقي الالكترونية وهي تلزم بمضمونها كاتبها حصرياً.

حاتم عبدالقادر