تنطلق في العاصمة العراقية، بغداد، يوم السبت الموافق 17 مايو الجاري أعمال القمة العربية في دورتها العادية الرابعة والثلاثين، والتي من المرتقب أن تحظى بمشاركة رفيعة التمثيل من الرؤساء والملوك والعرب لإثبات واتخاذ موقف عربي موحد في مواجهة الأزمات والقضايا الشائكة التي تمر بها الأمة العربية.
تأتي قمة بغداد في ظرف استثنائي بالغ الشدة والتعقيد لم تشهده المنطقة العربية من قبل في تاريخها المعاصر والحديث؛ إذ أن معظم المناطق العربية تمر بأزمات بالغة التأثير على الأوضاع السياسية والاقتصادية والأمنية بما يهدد الأمن القومي العربي في وحدته الجامعة، ومن قبله الأمن القومي القطري لكل دولة عربية على حدة، حيث التأثير المتبادل وعمليات التداخل لمهام الحفاظ على الأمن القومي لكل منطقة ضد المخاطر والتهديدات الماثلة.
وعل القضية الفلسطينية تأتي في المرتبة الأولى ضمن إجمالي القضايا العربية المتأزمة، خاصة في ظل التصعيد العسكري المتزايد من قبل دولة الاحتلال الإسرائيلي على قطاع غزة، والمحاولات المستميتة للتهجير القسري لأهل غزة وترحيلهم من أرضهم، وسيطرة الاحتلال على غزة بهدف تصفية القضية الفلسطينية، بدعم من الولايات المتحدة الأمريكية، وهو المخطط الذي أجمعت على مواجهته جميع الدول العربية بلا استثناء.
ومن المنتظر أن تشهد قمة بغداد مباحثات مستفيضة حول سبل إعادة إعمار غزة، وهو القرار العربي الذي اتخذه القادة العرب المشاركين في قمة القاهرة الطارئة في مارس الماضي، والذي اعتمد الخطة العربية لإعادة إعمار غزة والتي وضعتها وتبنتها جمهورية مصر العربية، إلا أن استمرار العدوان الإسرائيلي وتصعيده حال دون البدء في تنفيذ الخطة العربية لإعادة إعمار غزة، كذلك انهيار اتفاقيات وقف إطلاق النار التي يتم الوصول إليها من وقت لآخر وينقضها دولة الاحتلال. وما زالت أزمات السودان وليبيا واليمن وكذلك لبنان وعدم الوصول إلى تضميد جراح تلك الأزمات والوصول إلى تسوية سياسية شاملة بين الفرقاء في تلك الدول.. مازالت تلك الأزمات يئن منها الجسد العربي الذي وهنت عظامه وينتظر التعافي من خلال وصفة علاج سياسية يكتبها القادة العرب في اجتماع قمتهم في عاصمة الرشيد “بغداد”.. فهل يفعلوها؟
إن قمة بغداد، على الرغم من كونها قمة عادية، إلا أنها تحمل طابعا استثنائيا نظرا لطبيعة التغيرات الجيوسياسية التي تمر بها المنطقة العربية، ونظرا للتحولات التي تمس الأمن القومي العربي سواء في حيز النطاق أو من الحيز الإقليمي، كذلك القضايا الدولية والتي لها انعكاساتها المباشرة أو غير المباشرة على المنطقة، ومنها حالات الصراعات والاستقطاب الدائرة بين الولايات المتحدة الأمريكية وكل من الصين ورسيا على الوجه الأبرز.
لقد تجددت، حديثا، الاشتباكات والصراعات في العاصمة الليبية ،طرابلس، بين تنظيمات مسلحة وراح ضحيتها رئيس جهاز دعم الاستقرار في مدينة طرابلس الليبية، عبد الغني الككلي.
كذلك اتجهت المواجهات بين الجيش السوداني بقيادة الفريق أول عبد الفتاح البرهان وجماعة الدعم السريع بقيادة حمدان دقلو “حميدتي” في دارفور، وتعتبر المواجهات الأخطر في الصراع الدائر حاليا.
أما اليمن، فالأزمة هناك “محلك سر”، ولا زالت جماعة الحوثيين هي المسيطرة على مفاصل الدولة والقرار، فالرئيس اليمني رشاد العليمي وحكومته، لا أحد يشعر بهم ومكان وجودهم، فلا دولة أو حديث عن شبه دولة.
أما سوريا، فهي الرقم الأصعب حاليا في معادلة السياسة العربية، خاصة بعد سقوط نظام الرئيس بشار الأسد، وتولي أحمد الشرع زعيم تنظيم هيئة تحرير الشام منصب الرئيس المؤقت للجمهورية السورية في مشهد عبثي لم يشهده العالم العربي من قبل. وبالطبع لا ننسى أن مقتل حسن نصر الله زعيم حزب الله اللبناني في سبتمبر 2024، فكان نقطة محورية في اختلال المعادلة في منطقة الشرق العربي على وجه الخصوص، خاصة للتجاذبات المعروفة بين تلك المنطقة مع إيران، والتي كان حزب الله بقيادة زعيمه الراحل حسن نصر الله هو محور المعادلة وعامل اتزانها.
ولا غرو في أن سوريا مثلت محطة انطلاق صفقات إقليمية ودولية كان ثمنها الإطاحة بنظام “الأسد” في الثامن من ديسمبر 2024، والمجئ بالإرهابي السابق أبو محمد الجولاني والذي عدل إسمه ليصبح أحمد الشرع ليتلائم مع وظيفته الجديدة كرئيس مؤقت لسوريا.
أما لبنان، فقد عادت إلى بوتقة الصراع المتجدد من حين لاخر مع دولة الاحتلال الإسرائيلي وأصبحت ساحته مهددة، وخاصة في الجنوب معقل حزب الله الذي افتقد رمز المقاومة اللبنانية التاريخي حسن نصر الله.
أما الأقدار فقد لعبت دورا محوريا قبل انعقاد قمة بغداد، تمثل في قيام الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بزيارة إلى ثلاث دول خليجية هي المملكة العربية السعودية، ودولة الإمارات العربية المتحدة، ودولة قطر، وهي أول زيارة خارجية له، منذ فوزه برئاسة أمريكا في يناير الماضي. ويأتي “ترامب” في مهمة استراتيجية محددة ليجني من ورائها عددا من الصفقات المليارية من دول الخليج العربي الغنية بالمال والنفط، وقد نجح في إبرام تلك الصفقات، أما على المستوى السياسي، فسوف يتطرق “ترامب” مجددا إلى بحث مخطط تهجير أهالي غزة، أو على الأقل تكون قرارات القمة العربية مهادنة ولا تأخذ طرف التصعيد في مواجهة دولة الاحتلال الإسرائيلي.
في الشق التنموي، سيعقد القادة العرب قمة اقتصادية تنموية تحاول إحياء خلق كيان اقتصادي عربي موحد، وأهمها إقامة منطقة التجارة الحرة العربية. التحديات الماثلة أمام قمة بغداد، سينتظر الشارع العربي حيالها أن يخرج القادة العرب بخطاب يرضي الجماهير العربية وفقا لمتطلبات المرحلة الراهنة، كذلك قرارات، لا توصيات وإدانات، على قدر الأحداث التي تشهدها المنطقة العربية.
إن الشارع العربي يعول كثيرا على إصدار بيان يتطابق فيه الخطاب الرسمي مع الخطاب الشعبوي، كما حدث في مؤتمر القاهرة للسلام الذي عقد في 21 أكتوبر 2023 مساندة للحق الفلسطيني ومحاولة وقف عدوان جيش دولة الاحتلال على الشعب الفلسطيني في غزة، وكانت مواقف مصر والعراق والأردن هي الأقوى في هذا المؤتمر للانتصار للحق الفلسطيني، ما جعل الطرف الأوروبي منحازا للعدوان الإسرائيلي وعملوا على إخفاق جهود المؤتمر.
وفي كلمته أمام المؤتمر قال رئيس الحكومة العراقية محمد شياع السوداني: ” إن الشعب الفلسطيني يتعرض إلى عملية إبادة جماعية باستهدافِ المدنيين في المجمعاتِ السكنية والكنائس والمستشفيات”، وقال: “وأن ما يحدث جريمةُ حرب مُكتملة الأركان، بدأت بقتل العُزل وفرض حصار خانق على ما تبقى من الأحياءِ منهم”.
وأضاف “السوداني”: إن غزة تشكل اليوم امتحاناً جديداً للنظام العالميِّ، الذي فشل مرات عدةٍ في تطبيق ما ينادي به من قيم الإنسانية والعدل والحرية، وفلسطينُ شاهد حيّ على هذا الفشل.
وقال السوداني: حان الوقت لوضع حدٍّ لهذا الاحتلال البغيض، ووقفُ معاناة الشعبِ الفلسطيني، وأن الظلم لا ينتج سلاماً مستداماً، ولا سبيل لتحقيق الأمن وإنهاء العنف إلا بإزالة أسبابه، وفي مقدمتها الاحتلال وسياسات التمييز العنصري.
إن تلك المواقف ينتظرها الشارع العربي من قادته ومخرجات قمة بغداد التي تعلق عليها الآمال أن ترضي طموح الشعوب العربية.
إن العراق حريص كل الحرص على إنجاح القمة العربية على أراضيه، وأن تمثل مخرجاتها طموح الجماهير العربية، فهي شهادة ميلاد جديدة لعودة العراق إلى مكانته الرائدة ودوره الفاعل في محيطه العربي بعد سنوات من العزلة وغياب دوره الفاعل عربيا وإقليميا.
إن بغداد أكبر مدينة عربية بعد القاهرة، والتي ذيع صيتها في عهد الخليفة العباسي الخامس “هارون الرشيد” حتى أصبحت في عهده عاصمة العالم القديم، لما شهدته من حضارة متوجة بكافة فروع العلم والمعرفة والثقافة والأدب وعلوم اللغة، هي ذاتها “بغداد اليوم” التي تحتضن قمة عربية في أخطر وقت استثنائي تمر به المنطقة العربية.. فهل يفعلها القادة العرب من “عاصمة الرشيد” ويعلنون خطابا يتضمن موقفا عربيا واحدا متسما مع طموح الشعب العربي لإعادة مشروع عربي وحدوي في هذا الظرف التاريخي؟
إن الفرصة سانحة أمام القادة العرب في بغداد لاتخاذ موقف عربي موحد ضد الغطرسة الصهيونية وإعادة الحياة إلى القرار العربي، ففي بغداد قمة للأمل يقودها يقدمها القادة لشعوبهم، فهي قمة الشعب العربي.
ٍ