شمران الياسري (أبوگاطع).. بعد أربعين عاماً

آخر تحديث : الجمعة 20 أغسطس 2021 - 4:47 مساءً
بقلم:  إحسان شمران الياسري
بقلم: إحسان شمران الياسري

يومَ وصلتُ إلى قبرهِ في بيروت عام 2006، كان الموسمُ ربيعاً، ومقبرةُ شهداء الثورة الفلسطينية تتزاحم فيها القبور وأشجار الزينة.. وقصيدةُ نزار قباني عن بلقيس الشهيدة تتصدر مُقدّم المقبرة.. وبين أضرحة الشهداء، كان قبر الشهيد شمران الياسري/ أبو گاطع في النصف الأخير منها..

لم يكن لقاءً بين بَشرٍ وضريحٍ، بل لقاءً بين صبي وأبيه.

وقفتُ مأخوذا برهبةٍ عجيبة، تذكرتُ وجهَهُ ولونَ شعرهِ، شواربهِ، أصابعَ يدهِ، المسبحةَ التي لاتفارقُ يديه، خطوطَ الشرايينِ على يديهِ، رائحةَ التبغ في مشربهِ (البايب)، لون بجامته. كل هذا تذكرتهُ عندما نظرتُ لشاهدةِ قبره..

بهذا الانفعال الطاغي، اقتربتُ منه، من قبرهِ، من أيامه الطويلة، من غيبته الأبدية، من الخيولِ التي جابَ بها أريافَ الكوتِ هو ورفاقه، يوم كانت البطولةُ تستلّها حوافرها من عيونِ الزمنِ، ومن خواصرِ الطغاةِ، فترتدُ سنابكها على وجوهِ المتخاذلينَ وقليلي النواميسِ والخونة. بهذا الانفعال، حيثُ كنتُ استمع لوجيبِ قلبي وهو يقاوم التصدّعَ بين ثناياه، فألملمهُ، وأتكدّسُ بين شرايينه عسى أن أتجاوزُ لحظةَ المهابةِ وارتباك النبضِ وغيبوبةَ الإرادة.

وتذكرتُ أمي، وهي مصنعُ الصمودِ الكبير في بيتنا وعمودهَ الذي لم ينحنِ عندما غاب ربُ البيتِ، وابتلعتهُ السجونُ مرةً والأريافُ بمجاهلها مرةً أخرى، ثم المدن أحيانا..

تذكرتها فتخيلتها تقفُ عند ركن الضريح، فانحنيتُ لهما، أبي وأمي.. وكل الذين رقدوا في هذا المكان المقدس، يبحثون عن بقايا النذور، والمواعيد التي لم تكتمل.

بعد الأربعين..

كأنها يوم أمس، رغم ثقلها الباهض، ومرارة الاستذكار، حيث طُرق الباب عصر يوم 20 آب 1981، فكان الراحل فرات الجواهري والأستاذ داود الفرحان الذي لم أكن أعرفه، أما الأستاذ فرات، فهو عمي بكل ما تعنيه الكلمة. كان سؤالهم عن شخصٍ كبيرٍ في البيت يحدثانه.. وتحدثا مع فائز، فدارت دورتها الدنيا، لم يتبقَ على متنها مُنذرٌ بالربيعِ بعد رحيله، إذ قتلته الغربةُ، وأيادي الطغاة، ولاذت كل النواميس بالخجلِ والهزيمةِ.. كان شمران الياسري قضيةً كبيرةً في مشروع النهضةِ العراقيةِ، وعلى سعةِ هذهِ القضيةِ، كان متواضعاً، واضحاً لم تُغّرهِ حلاوةُ الشهرةِ والنجوميةِ عن تركِ النهجَ الذي وطّنَ قلمهُ وعقلهُ وعمودهُ الصحفي عليه..

هو يتحدثُ كما لو أنَّ ألوفُ المتحدثينَ رجعٌ لصدى صوته، فما استكانَ لموقعِ الحرفِ وهدوءِ الكلمةِ وجمال العبارةِ لتنتهي ألمعيتهُ في القمةِ وعند صدارةَ المبدعين.. كان شمران الياسري رائدُ الكلمةِ التي واجهت العتمةَ وغبارَ الميادينِ وضجيجَ المتسولينَ على أبوابِ الحكامِ، فانبرى يُحوّلُ الكلمةَ إلى قضيةٍ، والقضيةَ إلى شعبٍ والشعبَ إلى أكبرِ المنتمينَ إلى فكرتهِ وضميرهِ ومهجتهِ.. ومنذُ ذلك الحين، كانت الكلمةُ تعني قضيةً وموقفاً والتزاماً، ولم تجنح مراكبُهُ على شواطئ الرضا إلا عندما اضطرهَ الطغاةُ إلى نقلِ ميدانَ المنازلةِ إلى أرضٍ رخوةٍ، ليست أرضهَ ولا وطنهَ ولا أهلهَ.. فكانت أكبرُ الخساراتِ في حياتهِ عندما اضطر للرحيلِ، حيثُ تصدّعت تلكَ الاماني ببناءِ عراقٍ جديد.

يُحسبُ لشمران أنهُ كتبَ روايةً مثّلت أغنى قاموسٍ سيحفظ لغةَ الريفِ العراقي بما لا يتمكن معه التواترُ العادي من حفظها.. فضلاً عن أنها روايةٌ مكّنت القارئ من الوقوفِ على مرحلةٍ تأريخيةٍ مفصليةٍ في تأريخِ العراق الحديث، امتدت من عام 1920 حيثُ ثارَ الشعبُ العراقي بعفويتهِ (المعهودة) على المحتلين،غداة انتقال الهيمنةُ من العثمانيين إلى الانكليز، ثم تأسيس الدولةَ العراقيةَ الحديثةَ حيثُ جيءَ بالعائلةِ الهاشميةِ من الحجازِ لتحكمَ العراقَ، مروراً بالعهد الجمهوري الأول، فاغتيال الجمهوريةَ الأولى على أيدي الفاشيين..

نقلت روايتهُ كيفية تحوّل علاقاتُ الانتاجِ من علاقاتٍ عشائريةٍ وقبليةٍ لا قيمةَ للإدارةِ والتنظيمِ فيها، إلى عهدِ الاقطاعِ الذي غيرّ تلك العلاقات وأعطى للإقطاعيينَ وشيوخَ العشائرِ مزايا وأدوات للسيطرةِ على المجتمعِ زادت من أعداد المحرومينَ والمُستَغَلينَ (بفتح الغين واللام).. تلك هي الروايةُ التي أزعمُ أنها من أكبرِ المنجزاتِ الأدبيةِ والسرديةِ في الأدبِ العراقي، كتبها ذلك الرجلُ الذي علمتّهُ أمهُ القراءةَ والكتابةَ ثم تحوّلَ إلى أحدِ كبارِ المثقفينَ في العراق. وابتكرَ عموداً صحفياً باهراً، امتزجَت فيه ضخامةُ اللغةِ العربيةِ التي اتقنها، برشاقةِ وعمقِ اللغةِ العراقيةِ العاميةِ معطرةٌ وممهورةٌ بلهجةِ الريفِ المكتنزةُ حكمةً وأصالة.

كانَ عمودهُ الصحفي، وحتى روايتهُ، تستطيع إغناءَ القاريءَ حتى لو قرأ سطراً واحداً منها.. عجيبةٌ قدرةُ ما يكتبُ على هذا الغنى الباذخِ، الذي يجعلُ مَنْ يقرأ يرتمي بين السطورِ ويغوصُ في الصورِ التي يرسمها شمران الياسري بهذا القلمِ الجميل.

في سنتكَ الأربعينِ من الرحيلِ، وأنتَ تحتَ الثرى، حيث غادرت دنيانا يوم 1981/8/17، أدعوك أبي أن ترانا من هناك، حيث الملكوت الأعلى يمنحُ بركاتهُ لنا من خلال أسراركَ النقيةِ الممتلئةِ نزاهةً ونجابةً وعفّةً.. ودعائي أن تكون رحمتهُ تعالى قد شملتك.

رابط مختصر
2021-08-20
أترك تعليقك
0 تعليق
*الاسم
*البريد الالكترونى
الحقول المطلوبة*

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

شروط التعليق : عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

ان كل ما يندرج ضمن تعليقات القرّاء لا يعبّر بأي شكل من الأشكال عن آراء اسرة العربي الأفريقي الالكترونية وهي تلزم بمضمونها كاتبها حصرياً.

حاتم عبدالقادر