
بقلم: أميرة جاد الله
فيما تنعقد أعمال مؤتمر الأطراف الثلاثين (COP30) في بليم البرازيلية، تتحول الأنظار نحو محك حقيقي لمصداقية المجتمع الدولي. لم يعد المجال يتسع لمزيد من الوعود، بل حان وقت التحول من مرحلة التعهدات إلى مرحلة التنفيذ. نحن أمام مفترق طرق تاريخي؛ فإما أن يتحول هذا المؤتمر إلى دليل تشغيل حقيقي للعمل المناخي، أو سيصبح مجرد منصة خطابية أخرى تضاف إلى سلسلة خيبات الأمل العالمية.
البناء على إرث هش
شكَّل “إجماع الإمارات” في مؤتمر الأطراف الثامن والعشرين بدبي نقطة تحول تاريخية بكسر حاجز الصمت حول التخلص التدريجي من الوقود الأحفوري. إلا أن هذا الإنجاز يشبه خريطة طريق واضحة المعالم بلا محرك حقيقي لتحقيقها. والدليل الأبرز على ذلك ذلك التقرير الصادم الصادر عن مدرسة لندن للاقتصاد في ٢٠٢٣، والذي كشف أن ٩٨٪ من أكبر الشركات العالمية تفتقد لخطط تنفيذ ملموسة لالتزاماتها المناخية. هذه الفجوة الهائلة بين التعهدات والتنفيذ تضع العالم أمام حالة طوارئ حقيقية. لذلك، تتركز المهمة الأساسية لمؤتمر بليم في تحويل تلك الخطابات الطموحة إلى أطر إلزامية، من خلال اشتراط خطط انتقال فعلية وقابلة للقياس للشركات، وربطها بمعايير محاسبة واضحة وآليات تحقق مستقلة.
أما على الجانب المالي، فقد خرج مؤتمر الأطراف التاسع والعشرون بـ”الهدف الجماعي الجديد المعياري لتمويل المناخ” ليكون خليفةً لهدف المئة مليار دولار التاريخي. لكن شبح الإخفاق في الوفاء بذلك الوعد السابق – الذي تم الاتفاق عليه في كوبنهاغن عام ٢٠٠٩ – لا يزال يلوح في الأفق كشاهدٍ على أن العبرة ليست في حجم الرقم الذي يتم الإعلان عنه، بل في آلية وصوله ووضوح مصادر تمويله. فالهدف الجيد، رغم طموحه، يظل بحاجة إلى إجابة عن سؤال جوهري: هل ستكرر الدول المتقدمة سيناريو الوعد الكبير والتنفيذ المحدود؟ يجب أن يركز COP30 على تحويل هذا الهدف إلى حقيقة ملموسة، من خلال تصميم قنوات تمويل مرنة تصل مباشرة إلى الدول النامية والجزر الصغيرة، بعيداً عن البيروقراطية المعقدة التي تقتل الأمل قبل أن تبدأ المشاريع.
أفريقيا.. قارة المستقبل الأخضر على موعد مع العدالة
تشكل أفريقيا نموذجاً صارخاً للفجوة بين الإمكانات الهائلة والمعوقات المالية. فالقارة التي تمتلك 60% من أفضل موارد الطاقة الشمسية في العالم، لا تنتج سوى 1% من الطاقة الشمسية العالمية. هذه المفارقة المؤلمة هي الثمرة المريرة لشح التمويل وعدم توفر التقنيات اللازمة.
وتأتي مبادرة “ممر الطاقة النظيفة لأفريقيا” كنموذج حي لما يمكن تحقيقه. فبإمكاناتها الهائلة، يمكن لهذه المبادرة أن تشكل نقلة نوعية في مشهد الطاقة النظيفة بالقارة. لكن التحدي الحقيقي يكمن في كيفية تحويل هذه الإمكانات إلى واقع ملموس. هنا يأتي الدور الحاسم للمفاوضات الجارية في COP30، حيث يمكن لقرارات المؤتمر حول تبني أطر موحدة ومبسطة للوصول إلى التمويل، وتسهيل نقل التكنولوجيا، أن تحدث طفرة حقيقية. هذه القرارات ليست تقنية مجردة، بل هي العامل الذي سيمكن المبادرة من تسريع أهدافها للانتشار بحلول عام 2030 بنسبة 40%، كما سيساهم في إنشاء مراكز تصنيع محلية في كينيا وجنوب أفريقيا، مما يحول القارة من مستهلك سلبي للتكنولوجيا إلى شريك فاعل في الثورة الخضراء العالمية.
الفرصة البرازيلية.. أكثر من مجرد استضافة
إن اختيار بليم مدينة للمؤتمر هو رسالة قوية. فهي بوابة الأمازون، رئة العالم التي تختنق. لا يجب أن يقتصر الأمر على لفتة رمزية، بل يجب أن يكون المؤتمر منصة لإطلاق “صفقة حقيقية” لحماية الغابات، تكون قادرة على تحويل إنجازات البرازيل في خفض الانبعاثات إلى نموذج عالمي، مع ضمان مشاركة عادلة للمجتمعات المحلية والسكان الأصليين الذين هم حراس الحقيقة لهذه الثروات.
الشفافية.. سلاح المواطن في مواجهة التعقيد
أحد أكبر التحديات التي تواجه مؤتمرات المناخ هو تحولها إلى ما يشبه “الصندوق الأسود”، حيث تُتخذ القرارات خلف الأبواب المغلقة بعيداً عن أعين الجمهور. لم يعد مقبولاً أن تتحول مفاوضات تمس مصير البشرية إلى طقوس مغلقة. من حق الشعوب أن تعرف ما يجري لحظة بلحظة. لذا، يجب أن يطلق COP30 منصة شفافة لمتابعة المفاوضات، وأن يضمن مساحة حقيقية للمجتمع المدني والإعلام، لأن رقابة الرأي العام هي أقوى ضمانة لتنفيذ ما يتم الاتفاق عليه.
خلاصة الرأي وتوصيات عملية
تمثل قمة بليم محطة فارقة للانتقال من مرحلة التعهدات إلى مرحلة التنفيذ، وهذا يتطلب حزمة إجراءات واضحة:
أولاً: إلزام الشركات بمعايير تنفيذية محددة
· اعتماد إطار إلزامي للإفصاح عن خطط الانتقال المناخي وفق معايير ISSB
· إنشاء هيئات رقابية مستقلة للتحقق من نزاهة البيانات المقدمة.
· ربط التمويل والتجارة الدولية بالالتزام بمعايير التحول العادل.
ثانيًا: ضمان فعالية التمويل المناخي
· تبني آلية مبسطة لوصول التمويل إلى أفريقيا عبر “منصة تمويل موحدة”.
· تخصيص 50% من التمويل لمشاريع التكيف في الدول الأكثر تأثراً بالتغير المناخي.
· إنشاء وحدة دعم فني لإعداد المشاريع وتقديمها للتمويل.
ثالثًا: تعزيز الشفافية والمشاركة
· إطلاق منصة رقمية لمتابعة تنفيذ التعهدات لحظة بلحظة.
· تخصيص مقاعد تصويت استشارية للمجتمع المدني في اللجان الفنية.
· إنشاء آلية شكاوى للمتأثرين بمشاريع المناخ.
الوقت قد حان لتحويل كلمات بليم إلى أفعال، وخطوطها إلى التزامات، ووعودها إلى نتائج ملموسة تُقاس وتُحاسب. هذه ليست قمة أخرى، بل محطة أخيرة لاستعادة المصداقية، وفرصة تاريخية يجب ألا نضيعها.
