استطاع آبي أحمد خلال عامه الأول منذ تسلُّمه الحكم أن يَحْظَى باهتمامٍ إقليميٍّ ودوليٍّ ملحوظ؛ نظرًا لأن صعوده للسلطة مثَّل سابقة في تاريخ إثيوبيا الحديث بأن يحكم أحد أبناء قومية “أورومو” البلاد بعد استحواذ التيجراي على السلطة ومفاصل الدولة على مدار العقود الثلاثة الماضية، فضلًا عن إحرازه إنجازات طيبة على الصعيد الداخلي ضمن المشروع الإصلاحي الذي يستهدف من خلاله تماسك الجبهة الداخلية الإثيوبية التي تعرضت خلال السنوات الأخيرة إلى بعض التحديات التي من شأنها التأثير سلبًا على مستقبل الدولة هناك، إضافة إلى دوره في دعم مناخ السلام في منطقة القرن الإفريقي خاصة بعد توقيعه اتفاق السلام مع إريتريا في يوليو 2018م.
الأمر الذي دفع إحدى المجلات الشهيرة في القارة الإفريقية New African إلى اختياره الشخصية الأبرز في إفريقيا خلال عام 2018م، كما وصفته عدد من وسائل الإعلام في الغرب بأنه أحد أكثر الساسة ديناميكية وجاذبية للظهور في القارة. وهو ما يضعنا أمام تجربة فريدة لنمط جديد من الزعماء في إفريقيا يتناسب مع قدر طموحها نحو مستقبل نابِه لدولها ولشعوبها وفق ما تتضمنه أجندة إفريقيا 2063م.
أولًا: الداخل الإثيوبي بعد عام من سياسة آبي أحمد الإصلاحية
لم يعطل تعقد سياق البيئة المحلية الذي تزامن مع صعود آبي أحمد إلى السلطة في أبريل 2018م عن المضي قدمًا في اتخاذ إجراءات عدة على كافة المستويات السياسية والاقتصادية والأمنية والاجتماعية في البلاد، فقد تولى آبي المهمة في ظل انقسام التحالف الحاكم على نفسه، وبلد تواجهه العديد من الأزمات السياسية والأمنية والإنسانية، ناهيك عن الانقسامات بين مكوناته القومية -العرقية والإثنية-؛ إلا أنه أصر على الانتقال إلى مرحلة جديدة تستهدف تصحيح أخطاء الماضي وتنفيذ العديد من الإصلاحات في البلاد، حيث تعهد في بداية حكمه بإجراءات من شأنها تعزيز الديمقراطية من خلال الإصلاح على كافة المستويات، والاعتذار عن انتهاكات الأجهزة الأمنية في حق المعارضين، وتبنّي سياسة خارجية تنفتح على الجميع، وتعيد السلام بين إثيوبيا وإريتريا.
وهو ما لم تقبله بعض الأطراف السياسية في البلاد التي حاولت عرقلته عن المضي قدمًا نحو الإصلاح في الداخل، فكانت محاولة اغتياله الفاشلة في يونيو 2018م بميدان “مسقل” في العاصمة أديس أبابا، وقيام عدد من أفراد الجيش الإثيوبي في أكتوبر 2018م بمحاولة اقتحام مكتبه للتعبير عن استيائهم بالنسبة للأجور وبعض المطالب الأخرى، وهو ما اعتبره آبي محاولة لإجهاض التغيير في إثيوبيا.
وسعى آبي أحمد من خلال مشروعه الإصلاحي خلال العام المنصرم نحو إثبات أن سياساته مغايرة تعبر عن تغيير حقيقي على الساحة الإثيوبية تختلف عن سياسات النظام السابق الذي اندلعت المظاهرات ضد سياساته، وهو يهدف من خلالها إلى تقوية الجبهة الداخلية لتكون دافعًا قويًّا له في إنجاز مشروعه الإقليمي. كما أنه يسعى إلى تعزيز مكانته السياسية في البلاد لخوض الانتخابات المقبلة في 2020. فضلًا عن قطع الطريق على بعض القوى السياسية المناوئة والمتضررة من إصلاحات آبي الداخلية.
ففي محاولته من أجل إنهاء حالة الاستقطاب السياسي في البلاد وطمأنة الأطراف والقوى السياسية الأخرى؛ شهدت البلاد خلال هذا العام عددًا من التغييرات السياسية دفعت البلاد نحو المزيد من الانفتاح والتحول الديمقراطي. فقد قام آبي أحمد بإلغاء حالة الطوارئ في البلاد، كما أنه ألغى الرقابة على الصحافة والإنترنت، وأغلق السجون التي تشهد تعذيب المعتقلين فيها، كما بدأت السلطات بالتحقيق في قضايا الفساد التي تورط فيها عدد من المسؤولين في بعض المشروعات والشركات الحكومية. كما قام بالعفو عن العديد من المعتقلين السياسيين.
وفي إطار تعزيز التحول الديمقراطي؛ وافق البرلمان على مشروع قانون لإنشاء اللجنة الوطنية للمصالحة بهدف الحفاظ على السلام والعدالة والوحدة الوطنية والتوافق الشعبي، فيما أنشأ آبي أحمد وزارة للسلام من أجل الإشراف على الأنشطة المرتبطة بتعزيز التوافق الوطني في البلاد. كما وقَّع الائتلاف الحاكم وأكثر من مئة حزب وتنظيم سياسي إثيوبي على ميثاق شرف ينظِّم العمل السياسي بالبلاد، ويهدف هذا الميثاق إلى المحافظة على التداول السلمي للسلطة، ونَبْذ العنف وسياسة الإقصاء والتهميش، وتوسيع الحريات السياسية وضبط العمل السياسي.
كما تولى آبي أحمد ملف المعارضة المسلحة بشيء من الحكمة؛ حيث دعا كافة أحزاب المعارضة والتي لديها جبهات مسلحة إلى العودة للبلاد والمشاركة في العملية السياسية والإصلاح السياسي في مقابل ترك السلاح والعمل ضد الدولة، وقام بالتواصل مع المعارضة المسلحة في الداخل والخارج على حد سواء، ورفع الحظر المفروض على عدد من المعتقلين، وفي هذا السياق قام البرلمان الإثيوبي في 20 يوليو 2018م بإقرار قانون العفو العام للأفراد والجماعات قيد التحقيق أو المدانين بتهم الخيانة وتقويض النظام الدستوري والمقاومة المسلحة، بما يمهِّد لعودة المعارضة السياسية في الخارج إلى البلاد.
كما صادَق على رفع حركات المعارضة الداخلية المسلحة من قائمة الإرهاب في إطار عملية المصالحة السياسية الداخلية التي يتبناها آبي أحمد، ومن أبرز هذه الحركات جبهة تحرير أورومو والجبهة الوطنية لتحرير أوجادين وحركة جنبوت7.
ووقَّعت الحكومة الإثيوبية اتفاقًا مع الجبهة الوطنية لتحرير أوجادين في أكتوبر 2018م لإنهاء الصراع بينهما الذي استغرق أكثر من ثلاثة عقود من الزمان، وكان على إثره عودة محمد عمر عثمان، زعيم الجبهة إلى إثيوبيا في ديسمبر 2018م، كما قامت الحكومة الإثيوبية برفع اسمها من على قوائم الإرهاب في البلاد.
أما على صعيد المعارضة السياسية فقد عيّن آبي أحمد أفرادًا من المعارضة السياسية في عدد من المناصب التنفيذية مثل تعيين “برتكان مدقسا” كرئيسة للجنة الانتخابات الوطنية الإثيوبية، وهو ما يعكس انفتاح رئيس الوزراء الإثيوبي على المعارضة في البلاد، وأنه لا يجد غضاضة في مشاركتهم السياسية وفي المناصب السياسية.
في جانب آخر، فقد تبنَّى آبي أحمد خطابًا تصالحيًّا لشعوب الأقاليم الإثيوبية التسعة؛ حيث قام بعدد من الجولات الداخلية فيها في ظل مساعيه نحو إحلال السلام وتعزيز قيم التعايش بين شعوبها. وحرص على الجلوس مع ممثلي المجتمع المدني الإثيوبي -وصل عددهم إلى أكثر من 3000 شخص- من مناطق هراري وجامبيلا، وبني شنقول وعفار، والإقليم الصومالي في إثيوبيا؛ من أجل تدعيم التواصل بين الحكومة المركزية ومنظمات المجتمع المدني الإثيوبي.
وفي إطار حرصه على ضبط الحالة الأمنية في البلاد، وضمان بناء مؤسسات وطنية غير منحازة لأي من الأطراف السياسية في البلاد، ويكون ولاؤها للشعب والوطن لا للأحزاب السياسية، بحيث تأخذ الطابع القومي لها؛ قام آبي أحمد بعدد من الإجراءات على صعيد الأجهزة الأمنية والعسكرية في البلاد؛ حيث قام بتغييرات في قيادات الجيش الإثيوبي والجهاز الأمني، والتي شملت قوات الدفاع الوطني، ووكالة أمن شبكات المعلومات، وجهاز الأمن والمخابرات الوطني، والشرطة الفيدرالية الإثيوبية، فقام بإعفاء رئيس أركان الجيش الإثيوبي، ومدير جهاز الأمن والمخابرات الوطنية.
وحظيت المرأة الإثيوبية باهتمام ملحوظ في أجندة آبي أحمد خلال عامه الأول في الحكم، فقد قام بتخفيض عدد أعضاء حكومته إلى 20 وزيرًا نصفهم من النساء، كما تم تعيين أول سيدة -عائشة محمد موسى- لتولي وزارة الدفاع الإثيوبية، في سابقة هي الأولى من نوعها في تاريخ البلاد. كما قدم أول سيدة لتولي رئاسة البلاد لأول مرة في تاريخ الدولة الإثيوبية. بالإضافة إلى تعيين رئيسة للمحكمة الفيدرالية العليا.
اقتصاديًّا، برز اهتمام آبي أحمد بالاقتصاد الإثيوبي؛ كونه أحد المرتكزات التي يعتمد عليها في تنفيذ أجندته ومشروعه الإصلاحي، سواء على الصعيدين المحلي والإقليمي والدولي، ومحاولته الانتقال نحو اقتصاد إثيوبي أكثر إنتاجية، والتغلب على التحديات التي تواجهه وتعرقل مسيرته؛ لذلك فقد أعلن عن خطط اقتصادية من شأنها خصخصة الشركات الرئيسية المملوكة للدولة بشكل جزئي، مثل شركة الخطوط الجوية الإثيوبية، وشركة الاتصالات Ethio Telecom وEthian Electric Power Corporation فضلًا عن بعض المؤسسات الحكومية متوسطة الحجم مثل مزارع السكر والمجمعات الصناعية. كما بدأت إثيوبيا في أول تجربة لاستخراج النفط من إقليم أوجادين “الإقليم الصومالي في إثيوبيا”. هذا بالإضافة إلى تهيئة المناخ الاقتصادي في إثيوبيا من أجل اجتذاب المزيد من الاستثمارات الأجنبية إلى البلاد.
ثانيًا: تحديات ومعوقات داخلية مهددة لمسار الإصلاح
بالرغم من حرص آبي أحمد على تنفيذ مشروعه الإصلاحي الذي يستهدف تعظيم قدرات الدولة الإثيوبية على كافة المستويات السياسية والاقتصادية والأمنية والاجتماعية، وما حققه من خطوات جيدة منذ أبريل 2018م، إلا أنه تظل هناك عدد من المعوقات والتحديات التي تهدِّد الإنجازات التي حققها آبي أحمد حتى الآن في البلاد، ولعل أبرزها: تصاعد أعمال العنف الإثني والاشتباكات المستمرة بين القوميات والعرقيات في البلاد والتي تسببت في نزوح ولجوء حوالي 1.8 مليون إثيوبي؛ حيث تمثل الطائفية السياسية أحد أبرز مهددات السلم والاستقرار والوحدة الوطنية في إثيوبيا؛ وهو الأمر الذي تعتبره الحكومة الإثيوبية كأنه محاولة من بعض القوى المناوئة لتعطيل عملية الإصلاح في إثيوبيا. فلا يزال هناك صراعات بين بعض القوميات الإثيوبية مثل قوميتي الصومالية والأورومو منذ يوليو 2018م والتي قدر المجلس النرويجي للاجئين أنها تسببت في نزوح أكثر من 200 ألف شخص نتيجة الصراع الدائر بينهما، كما أن هناك صراعًا بين قوميتي الصومال والعفر في إثيوبيا على المنطقة الحدودية بينهما “إنديفو”. وهو ما يثير إلى الأذهان تصاعد النزعة الانفصالية في البلاد؛ فهناك الجبهة الوطنية لتحرير أوجادين لا زالت تتمسك بموقفها إزاء انفصال الإقليم الصومالي في إثيوبيا عنها، الأمر الذي يثير المخاوف لدى صانعي القرار الإثيوبي من تفكك الدولة الإثيوبية، والسعي دومًا نحو الحفاظ على الاتحاد الفيدرالي في البلاد.
كما أن استمرار الخلاف بين الحكومة المركزية وبعض الجبهات المسلحة من شأنه تهديد الإصلاحات الجارية، فعلى الرغم من عودة جبهة تحرير أورومو إلى البلاد إلى جانب ست جماعات وحركات متمردة كانت متمركزة في إريتريا عقب توقيع اتفاق السلام بين البلدين، إلا أن هناك خلافًا قد نشب بين الجبهة والحكومة الفيدرالية بشأن نشر القوات الإثيوبية في مناطق ينشط فيها مقاتلوها.
وتقع على عاتق الحكومة الفيدرالية مسؤولية تغيير النظرة السلبية تجاه الائتلاف الحاكم الذي يقود البلاد، والتخلص من فكرة الاستياء إزاءه، خاصة في ظل المظلومية التي عانت منها قوميات البلاد خلال العقود الأخيرة في ظل سيطرة قومية التيجراي على مؤسسات الدولة الإثيوبية، واستمرار التحديات التي تواجه الشعب الإثيوبي دون أيّ تدخل من الائتلاف الحاكم لوجود حلول لها.
ثالثًا: السياسة الخارجية الإثيوبية.. إعادة التموضع الإقليمي والدولي
شكَّل التحول الذي شهدته إثيوبيا منذ تولي آبي أحمد السلطة في أبريل 2018م ملمحًا بارزًا انعكس في سياساته الداخلية والخارجية، الأمر الذي انطلقت من خلاله إثيوبيا في خطواتها مسرعة نحو إصلاح سياسي واقتصادي أطلق عليه التحول الكبير؛ بحيث دفع المناخ الإيجابي الداخلي الذي هيَّأه آبي أحمد إلى تبنّي سياسة خارجية دفعت المجتمع الدولي إلى الدخول في تعاون مشترك مع إثيوبيا على كافة المستويات، خاصة في ظل ما تتمتع به من أهمية استراتيجية في منطقة القرن الإفريقي، وما تسهم به إقليميًّا من دفع عملية الاستقرار والأمن الإقليمي في المنطقة.
إن تحركات آبي أحمد على الصعيد الخارجي تعكس رغبته في تحقيق عدد من الأهداف؛ من أبرزها: تعزيز مكانة إثيوبيا على الساحة الإقليمية والدولية، وأن تكون هي القائد الإقليمي البارز في منطقة شرق إفريقيا والقرن الإفريقي في ظل إعادة صياغة توازنات القوى في المنطقة، وإعلاء مبدأ “تصفير المشكلات” مع دول الجوار الإقليمي لا سيما إريتريا والصومال، إضافة إلى تنويع تحالفاتها الإقليمية والدولية في ظل التغيرات والتطورات التي طرأت خلال الفترة الأخيرة على الساحة الإفريقية من تصاعد تنافس القوى الكبرى على القارة، والمُضِيّ قُدُمًا نحو جذب العديد من الاستثمارات الأجنبية إلى البلاد من أجل تعزيز ودعم الاقتصاد الإثيوبي المتنامي. هذا بالإضافة إلى سياسة عدم الانحياز إزاء بعض قضايا وملفات منطقة الشرق الأوسط مع إمكانية لعب دور الوسيط في بعض تلك الأزمات لتعزيز الدور الإقليمي الإثيوبي في المنطقة.
فمع تولي آبي أحمد للسلطة في 2018م حدث انفتاح ملحوظ لإثيوبيا مع العالم الخارجي، وهو ما عكسته الزيارات والجولات المتبادلة واللقاءات بين المسئولين الإثيوبيين ونظرائهم من الخارج. فقد مثلت عملية المصالحة الإقليمية بين إثيوبيا وإريتريا بوساطة إقليمية ودولية في يوليو 2018م نقطة تحول كبرى نحو تعزيز الأمن والاستقرار الإقليمي في منطقة القرن الإفريقي؛ حيث دعمت ما يمكن تسميته بالسلام الإيجابي في الإقليم والذي أسهم في احتواء الخلافات والنزاعات الإقليمية وتسويتها.
ومن هنا لعب آبي أحمد دور “مبعوث السلام في القرن الإفريقي”؛ حيث قاد عملية سلام إقليمية في المنطقة أسهمت في التقارب بين دول المنطقة مثل إريتريا والصومال، وإريتريا والسودان، وإثيوبيا والصومال، وهو ما دفع البعض إلى الاعتقاد بأن آبي أحمد يرغب في وحدة إقليمية بين دول القرن الإفريقي تحت قيادة إثيوبية.
كما أسهمت إثيوبيا في رفع الحظر الذي فرضته الأمم المتحدة على إريتريا عقب المصالحة الإقليمية؛ حيث دعت أديس أبابا إثيوبيا في يوليو 2018م -كانت لا تزال عضوًا غير دائم في مجلس الأمن الدولي- الأمم المتحدة في طلب رسمي برفع العقوبات المفروضة على إريتريا من جانب مجلس الأمن.
كما لعبت إثيوبيا دور الوسيط في عدد من أزمات المنطقة كان أبرزها الوساطة في الأزمة الدبلوماسية الأخيرة بين الصومال وكينيا على خلفية النزاع البحري بينهما، والنجاح في توصل الطرفين إلى الاتفاق على حل النزاع في الحدود البحرية بين البلدين بالطرق الدبلوماسية وعودة العلاقات بينهما. كما أبدت أديس أبابا استعدادها للعب دور الوسيط في حلّ الخلافات بين الصومال وأرض الصومال؛ من أجل إيجاد مساحة من التفاهم بين الجانبين، وفي إطار الرغبة الإثيوبية في تعزيز السلام الإقليمي في المنطقة. فضلًا عن الوساطة الإثيوبية في التقارب الجيبوتي الإريتري.
فيما أضحت أديس أبابا مقصدًا للعديد من الأطراف المتصارعة في بعض دول المنطقة من أجل عقد المباحثات بهدف تسوية الخلافات في ظل احتضانها لعدد من المباحثات، مثل المحادثات التي تمت بين الأطراف المتناحرة في دولة جنوب السودان لتسوية الصراع الدائر في البلاد منذ ديسمبر 2013م. وهو ما يضيف ثقلًا سياسيًّا إلى دورها الإقليمي في المنطقة، ويعزز من ارتباط دول المنطقة بها.
وفي سياق آخر، تمتعت سياسة إثيوبيا الخارجية بنوع من الحيطة الاستراتيجية إزاء قضايا وملفات إقليمية في الشرق الأوسط امتدت آثارها إلى منطقة القرن الإفريقي لاعتبارات جيوسياسية، ففي الأزمة الخليجية الراهنة، فضلت إثيوبيا عدم الانحياز لأيٍّ من طرفيها، والحفاظ على مسافة واحدة من الجميع، وربما يعود ذلك إلى رؤية آبي أحمد الرامية إلى استمرار ضخ المزيد من الاستثمارات الخليجية -السعودية والإماراتية والقطرية- إلى البلاد، والاستفادة منها في محاربة الفقر وتطوير قطاعات كبيرة في البلاد؛ لأن الانحياز لأيّ من طرفي الأزمة سوف يضر بمصالح البلاد.
فيما عرض آبي أحمد الوساطة لحل الأزمة اليمنية، وطالب الأطراف السياسية في اليمن للجلوس على مائدة الحوار من أجل تسوية الأزمة في البلاد.
وتقدم إثيوبيا نفسها للقوى الدولية -لا سيما الولايات المتحدة الأمريكية- على أنها الحليف الكفء القادر على مكافحة الإرهاب في المنطقة، وخدمة وحماية المصالح الغربية والأمريكية في القرن الإفريقي. كما تسهم إثيوبيا في محاربة الإرهاب في المنطقة من خلال مساهمة قواتها المشتركة ضمن القوات الإفريقية التابعة للاتحاد الإفريقي في بعض الدول الإفريقية، مثل مهمة “أميصوم” في الصومال من أجل مواجهة حركة شباب المجاهدين؛ حيث قامت القوات الإثيوبية الموجودة في الصومال بعددٍ من الغارات الجوية في يناير 2019م كردّ على هجوم عناصر الحركة الذي استهدف بعض عناصرها.
وفي إطار السعي نحو تعزيز ثقة المواطن الإثيوبي في حكومته على الصعيد الخارجي، لعب آبي أحمد دورًا مهمًّا في العمل على عودة المواطنين الإثيوبيين المعتقلين والإفراج عنهم خلال زياراته إلى عدد من الدول الأخرى؛ حيث نجح في إصدار الحكومة التنزانية قرارًا بالعفو عن المعتقلين الإثيوبيين هناك، كما أبدت حكومته استعدادها لإعادة ما يزيد عن 2000 إثيوبي يعيشون في بعض دول الشرق الأوسط مثل اليمن وليبيا وتنزانيا. ففي أثناء زيارته للسودان أعلن الرئيس البشير الإفراج عن كافة المعتقلين الإثيوبيين، كما نجح في الإفراج عن 1000 سجين إثيوبي في السعودية خلال زيارته للمملكة.
فيما ركزت السياسة الخارجية لإثيوبيا في عهد آبي أحمد على إقامة شراكات استراتيجية مع دول المنطقة، من خلال تعميق علاقاتها الاقتصادية مع دول المنطقة، وزيادة حجم التبادل التجاري بينها، وتوقيع المزيد من اتفاقيات ومذكرات التفاهم في مختلف المجالات. كما عزَّزَت ما يُعرَف بدبلوماسية الموانئ في القرن الإفريقي نظرًا لكونها دولة حبيسة ليس لها منافذ بحرية، وفي سبيل ذلك عمدت إلى تطبيع علاقاتها الاستراتيجية مع دول الجوار لا سيما إريتريا والصومال وجيبوتي والسودان وكينيا، وتوقيع عدد من الاتفاقات مع دول المنطقة بشأن تطوير واستغلال موانئها مثل مينائي “عصب ومصوع” الإريتريين، وميناء “بورتسودان” في السودان، وميناء “جيبوتي”، وميناء “ممباسا ولامو” في كينيا، وميناء “بربرة” في إقليم أرض الصومال، وذلك في إطار دعم عملية التكامل الاقتصادي الإقليمي في المنطقة التي تهدف من خلالها إثيوبيا إلى ربط كافة اقتصادات دول المنطقة بالاقتصاد الإثيوبي الذي يعد ضمن الاقتصادات الأكثر نموًّا على المستوى القارِّيّ، لخدمة الأهداف الإثيوبية في المنطقة.
كما سعى آبي أحمد إلى تعزيز علاقاته الاستراتيجية مع الدول المانحة والاتحاد الأوروبي والقوى الدولية الكبرى والمنظمات الدولية من خلال تعزيز العلاقات الاقتصادية معها بما يمهِّد لمزيد من الاستثمارات الأجنبية في إثيوبيا، خاصة في ظل الترحيب والدعم الدولي للإصلاحات التي يقوم بها آبي أحمد في إثيوبيا، وهو ما هيَّأ المناخ الاستثماري في البلاد أمام استثمارات القوى الاقتصادية؛ حيث تعتبر الصين وتركيا والولايات المتحدة والسعودية والمغرب والاتحاد الأوروبي من أكبر المستثمرين في إثيوبيا؛ حيث يبلغ حجم الاستثمارات المغربية في البلاد حوالي مليار دولار، بينما يبلغ حجم استثمارات السودان هناك نحو 2.4 مليار دولار في 2014م، وتعد السعودية ثالث أكبر المستثمرين الأجانب في إثيوبيا بحجم استثمارات بلغ نحو 5.2 مليار دولار، وحجم الاستثمارات الإماراتية في إثيوبيا نحو 3 مليارات دولار تتركز في الصناعات الدوائية، وتقدم بريطانيا سنويًّا أكثر من 350 مليون دولار إلى إثيوبيا لدعم الأنشطة التنموية فيها، فيما منح البنك الدولي إثيوبيا قرضًا بقيمة 100 مليون دولار من أجل دعم جهود الحكومة الإثيوبية في تحسين معيشة الريف وتحسين إنتاجية الأرض.
الأمر الذي مكَّن الحكومة الإثيوبية من الحصول على 13 مليار دولار خلال العام الماضي بفضل الإصلاحات الاقتصادية التي اتخذها آبي أحمد، وهي عبارة عن قروض ومِنَح وتحويلات للمغتربين، كما استطاعت الحكومة توفير نحو 8 مليارات دولار للقطاع الخاص خلال الفترة نفسها.
ومن ثَمَّ، يظل مشروع آبي أحمد الإقليمي الذي أحرز تقدمًا ملحوظًا خلال العام المنقضي في ظل سياسة خارجية نشطة في محيطها الإقليمي والقاري، يلعب دورًا مهمًّا في إعادة تموضع الدولة الإثيوبية على الساحتين الإقليمية والدولية بما يعزِّز من مكانتها الذي ينعكس بشكل واضح على تبوؤها أهمية متعاظمة كرقم مهم ضمن المعادلة الإقليمية في منطقة القرن الإفريقي بالنسبة للقوى الدولية الكبرى في ضوء تصاعد التنافس الدولي والإقليمي على النفوذ والموارد هناك، وفي إطار المساعي نحو إعادة هندسة توازنات القوى في المنطقة. ولكن يظل استمراره مرهونًا بالتغلُّب على التحديات الداخلية التي تواجه آبي أحمد، والحفاظ على مكتسبات حركة السياسة الإثيوبية، وما أحرزته على صعيد السلام الإقليمي في القرن الإفريقي.
* باحث بمركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية.