ما زال الجـدل البيزنطي يدور حـول أجناس ملائكة الحوار وأجناس شياطينه … ولأنّ كلمة حـوار ليست “دستورية” ، إستطاع المستشرق الفرنسي : “جان إيـف لودريان” أنْ يستنبط من اللغة العربية كلمة أكثر “ميثاقية” إسمها “النقاش”، وبهذا يكون كَمَنْ يعقّد الأمور أكثر مما يسهِّلها ، لأن كلمة حوار في القاموس تعني : تبادل الكلام والجواب ، فيما كلمة “ناقشَ” تعني الجدل والمماحكة .
وإنْ شاء المندوب الفرنسي في جولته الرابعة أنْ يجتهد أكثر في معاني المفردات العربية تحقيقاً للإستحقاق الرئاسي ، فعليه أنْ يعتمد كلمة “التشاور” التي وردت في القرآن : “وشاوِرْهم في الأمر …” وهذا ما قامت عليه خلافة الخلفاء الراشدين .
ولكن ، لأن مهمـة الموفد الفرنسي اصطدمت بالفراغ السياسي والفراغ الرئاسي فقد حاول أنْ يتلاعب بالألفاظ ليكتشف “الصندوق الأسود” عند القادة والأقطاب اللبنانيين ، فرأى أنَّ الصندوق الأسود البشري ، شبيهٌ بصندوق الطائرات ، لا تُكتَشَفُ مضامينهُ إلاّ بسقوط الطائرة .
حـوارٌ ، نقاشٌ ، تشاوُر : كلماتٌ لها بُعْدٌ واحـدٌ ومدلولٌ واحـد وهدف واحدٌ : هو التوافق ، وبدل أنْ نتوافق بالدستور ، أصبح الدستور يحتاج إلى توافق، وانتخاب الرئيس يحتاج إلى توافق ، وتأليف الحكومة ، وتطبيق اتفاق الطائف، وهكذا مكافحة الفساد تحتاج إلى توافق وشتّى المراسيم والقرارات والتعيينات والتشريعات .
وهذا التوافق إنتقل بالعدوى إلى اللجنة الدولية الخماسية في نيويورك ، فانقسمت على نفسها وهي تبحث في ملف لبنان ، لأن كلّ ما يتعلق بلبنان أصبح يحتاج إلى توافق ، مع أنّ هذا التوافق يكاد يشكِّل مستحيلاً رابعاً يُضاف إلى المستحيلات الثلاثة عند العرب : “الغول والعنقاء والخـلّ الوفي ..”
لأننا منذ سنة 1975 لا نزال نمارس السياسة بالمنطق الميليشياوي : اللّباسُ مرقّـط والقمصان مزركشة ، والوجوه مموّهـة ، والجباه معصوبةٌ بالشرائط الحمـر ، وكلٌّ يقـف خلف متراس من الرمل ، يتراشقون بالسهام المدمَّمـة ، والألسنة المسمّمة ، وليس هناك ما يـدّل على بلوغ سنّ الرشد ، فهذا يعني أنّ القرار أصبح في عهدة الأوصياء .
وحين يقدّم المجلس النيابي أوراق اعتماده سفيراً “تحت” العادة للدول الخارجية ، فلا يعود لنا علاقة بالإستحقاق الرئاسي ، ولا تعود هناك قيمة للجلسات النيابية المفتوحة والمشروطة بالحوار ، في معزل عن أحزابٍ معارضةٍ بطابعها المذهبي .
في مذكرات الوزير فؤاد بطرس “أنّ المجلس النيابي صـوَّت بغالبية 79 صوتاً مقابل 14 صوتاً على تعديل دستوري لإعادة انتخاب فؤاد شهاب رئيساً ، ولما كان من النواب المعارضين : نواب الكتائب والأحرار والكتلة الوطنية رفض فؤاد شهاب التمديد حرصاً على وحدة الصف في البلاد .
هذا كان ، يـوم كان في لبنان دولةٌ وجمهورية ورئيس ، وخيمةٌ تجمع بين الرئيسين فؤاد شهاب وجمال عبد الناصر ، نصفُها في الأراضي السورية ، ونصفُها الآخر في أرض لبنان ، فيما اليوم أصبحت كـلُّ الأراضي اللبنانية مستباحة أمام الخِيم والمخيّمات ، والحدود مفتوحة على كل أنواع الفتوح والنزوح بلا حدود .
ويـوم كان في لبنان قامات وهامات ومقامات ورؤوس عالية لا تنحني لشرق أو لغرب ، كان الشرق والغرب يتظلّلان في كنف برنيطة وطربوش ، برنيطة بشارة الخوري وطربوش رياض الصلح ، هذا الحِلْفُ الذي كرّس الإنتماء الوطني ، والإنفتاح على الشرق والغرب ، ولا فتوحات .
عندما يستطيع المنْتِجون السينمائيون أنْ يستخدموا القادة اللبنانيين أبطالاً في أفلام رعاة البقر ، فلا يبقى في لبنان قرار ولا حوار ، وتصبح اللعبة الديمقراطية البرلمانية لعبة أطفال ويصبح معها الإنتظار عملية إنتحارية .
عندما أخذت دول المحور تهدّد الولايات المتحدة قال الرئيس الأميركي “روزفلت” : “إنّ انتظار الأعداء حتى يصلوا إلى نوافذ بيوتنا هو عملية إنتحارية .
هذا ، مع العلم أنّ “روزفلت” كان مصاباً بمرض شلل الأطفال واستطاع أن يقف على رجولة قدميه .
متى يستطيع المصابون عندنا بشلل الأطفال أنْ يقفوا على أقدام الرجال .
*كاتب المقال: وزير لبناني سابق.