إنطلقت الإنتخابات البلدية والإختيارية في مراحلها الثلاث بتعطُّشٍ محمومٍ إلى تداول السلطة بعد سنين من التمديد ، وقد يكون التنافس على الزعامةِ أكثر مـمّا هو على الإنمـاء.
المهـمّ ، مَـنْ سيكون الريّس ، ومَـنْ سيكون الديك الذي يتباهى على الآخرين ، والديك صيّـاحٌ حتى على المزابل . تنتصر الديوك ، فتنطلق الزمامير صيّاحةً حتى الضجيج ، وينطلق معها الرصاص فرحاً بانتصار سيّد العشيرة ، وما هـمَّ أنْ يحزن الآخرون على ضحايا المبتهجين بالرصاص.
كأنْ لا يكفي ما سقط من شهداء وضحايا نتيجة الحروب المتعاقبة على هذه الأرض ، فضاقت فيها كثافة القبور مع كثافة النزوح . لا تـزال لغـة الرصاص هي الثقافة الرائجة عندنا ، وفي العالم الذي تعَسْكرَ حولنا ، فإذا الحركة اللبنانية تعاني من جَدلِّيـةِ دمجها في ثقافة المحيط الصاخب بالتوتّر الأمني والمذهبي والمترنّح بين الديكتاتورية والنظام البوليسي.
لم تدرك الحضارة والمدنيّة الحديثة أنّ رصاصتين فقط أشعلتا الحرب العالمية الأولى ، سنة 1914 : رصاصتان أطلقهما شابٌ على ولـيّ عهد النمسا وزوجته فأرداهما قتيلين .. قتيلان فقط تسبّبا بقتل الملايين ، ورصاصتان فقط غيَّرتا مسار التاريخ العالمي.
ولا يـزال الرصاص يتحكّم بمسار التاريخ العالمي في القرن الواحد والعشرين، ينطلق عشوائياً ، منكَ إليهِ ، ومنك إليكَ ، وغالباً ما يكون منكَ إليك.
في موازاة ثقافة الرصاص ، لا تزال ثقافة الكيديّة والحزازات الشخصية بالغـةَ الأثـر عندنا في شتّى المجالات السياسية والإنتخابية ، نيابيةً وبلديـةً على السواء.
على سبيل المثال : لا تزال تتناقل الأجيال في محيطنا الجغرافي ذلك النزاع على مختارية بلدة “داريـا” في إقليم الخروب ، بين السلطان سليم الخـوري شقيق الرئيس بشارة الخوري والرئيس رياض الصلح : السلطان يريد إسقاط المرشح لمركز المختار ، والرئيس الصلح يحول دون ذلك ، وقد اشتـدّ الصراع بين القطبين إلى حـدّ تهديد الرئيس الصلح باستقالة الحكومة إذا تـمَّ إسقاط المختار ، وتهديد السلطان سليم بحـلّ مجلس النواب إذا حصل العكس ، وكان الله في عـون المجلس النيابي فنَجـا من الحـلّ ، بالرغم من تمكُّن المختار من الفوز.
في القرآن : “ويَضْـرِبُ اللهُ الأمثالَ للناسِ لعلَّهُمْ يتذكَّرون”.
خيـرُ من يعبّر عن سياسة البلدية والمخترة هم الرحابنة ، في مسرحية “المحطة”: رئيس البلدية نصري شمس الدين يرسل إلى فيروز “البوليسيّة” وهي لم ترتكب ذنْبـاً ، مثلما كانت مسرحية “بيّـاع الخواتم” ، تخترع من المختار شخصية وهميّـة إسمها “راجح” يستخدم كلّ وسائل الشيطنة بهدف الإساءة إلى القريـة.
وخيـرُ مَـن يعبّـر عن طبيعة الممارسة السياسية عندنا ، هو منصور الرحباني القائل : “كلّنا دقّيقيـن كبـيّ”.
المجالس البلدية في لبنان تمثّل إرادة مجموعات الشعب ، والشعب مصـدر السلطة في النظام الديمقراطي ، والسلطة كما يقول “برناردشو” : “لا تُفسد الرجال إنما الأغبياء إذا وُضعوا في السلطة هم الذين يفسدونها”.
وعليه يقتضي أن يتقيّد التمثيل الشعبي بصفاتٍ أخلاقية وعقلية ووطنية عالية ، لا أن يكون مجـرَّدَ انتهازِ طموحٍ ومصدراً للتعيّش والجـاه . حين يكون التمثيل في السلطة من أدنى إلى أعلى ، ومن أعلى إلى أدنى مدفوعاً بغريزة السيطرة والجـاه ، فهذا مـرضٌ يُعْـرف بجنون العظمَـة ، وغالباً ما تذهب العظمة ، ويبقى الجنون.