في عالمٍ تتشابك فيه المصالح وتتقاطع فيه الإرادات، لم تعد الحركة السياسية في منطقة الشرق الأوسط تحرّكها العوامل الداخلية فقط، بل أضحت خاضعةً بشكلٍ أو بآخر لأيدي دول القرار، التي تتحكم بمسارات النزاعات، وتوجّه الحلول وفقاً لمصالحها الإستراتيجية.
لقد تحولت المنطقة، منذ عقود، إلى ساحة مفتوحة للتجاذبات الدولية، تُدار فيها الملفات الساخنة كأوراق ضغط، وتُستثمر فيها معاناة الشعوب كورقة تفاوض، في حين يُغيّب القرار الوطني المستقل لصالح حسابات خارجية لا تعبأ غالباً بمصير الإنسان العربي قدر ما تعبأ بالثروات، والنفوذ، وخطوط الغاز والخرائط الجديدة.
إن هذه السيطرة غير المعلنة تُلقي بظلالها الثقيلة على طبيعة النظم السياسية في المنطقة، فتصبح الحركة السياسية إما مشروطة بدعم خارجي، أو مقيدة بسياسات تحافظ على التوازنات الإقليمية والدولية، ولو على حساب السيادة والكرامة الوطنية.
ولعلّ أخطر ما في الأمر هو التداخل بين الداخل والخارج إلى حدّ يصعب فيه التفريق بين القرار الوطني والقرار المفروض، حيث تتماهىٰ المواقف المحلية مع أجندات الخارج، ويتراجع دور الشعوب إلى مجرد جمهور متفرج، تُصادر إرادته ويُستثمر وجعه.
في ظل هذا الواقع، يبدو أن اتجاه المنطقة لا يزال ضبابياً، محفوفاً بمخاطر التفكك والتدويل، في وقتٍ تتعثر فيه محاولات النهوض الحقيقي. فثمة أنظمة تشدّ إلى الوراء، وأحزاب تُقاتل من أجل البقاء لا من أجل البناء، وجماعات ترفع شعارات التحرر وهي غارقة في التبعية.
وبين هذه القوى، تبقىٰ الشعوب تبحث عن منفذ للخلاص، عن كرامة سياسية مفقودة، وعن مشروع وطني جامع يخرجها من نفق الأزمات المتلاحقة. لكن رغم كل هذا الإنحدار، لا يمكن إنكار وجود تحركات شعبية متصاعدة، ومطالبات متكررة بإعادة الإعتبار إلى السياسة كأداة للتغيير، لا كوسيلة للهيمنة. ثمة وعي جديد ينمو، ببطء ولكن بثبات، يرفض الإصطفافات العمياء، ويشكّك بالروايات الجاهزة، ويطالب بقيادة تعبّر عن نبض الناس لا عن مصالح الدول الراعية.
فالحل لا يكون بالإستسلام لمعادلات الخارج، بل بإعادة إنتاج السياسة على أسس وطنية، تستند إلى الشفافية، والمحاسبة، وتغليب المصلحة العامة.
إن المشهد السياسي في الشرق الأوسط، وإن بدا ساكناً أو مُوجّهاً في الظاهر، إلا أنه يختزن تحولات عميقة، قد تفضي إلى أحد طريقين: إما ترسيخ مزيد من التبعية والضعف، وإما ولادة مرحلة جديدة من الوعي والسيادة، تقودها نخب صادقة، وشعوب لا تساوم على مستقبلها. بين هذين الطريقين، تظل الكلمة الفصل للوعي، وللإرادة الجمعية، ولقدرة المجتمعات على كسر القوالب المفروضة، وصناعة قرارها الحرّ.
وفي النهاية، يبقى السؤال معلّقاً؛ هل نملك الشجاعة لنقول “لا” حين يجب أن نقولها؟ وهل نمتلك الإرادة لنصوغ حاضرنا بأيدينا، بعيداً عن وصاية الخارج وأوهام الداخل؟ الإجابة، وإن بدت صعبة، إلا أنها تبدأ من لحظة وعي، تتبعها لحظة فعل، تقود إلى خلاصٍ طال انتظاره.
*كاتب المقال: إعلامي لبناني.