لم يكنْ من الضروري أن نقدّمَ الحلوى ضيافةً للموفد الأميركي :”توم بارّاك”، لعلّ العينَ تستحي وتغضُّ النظرَ عن السلاح ، لأن لبنان ليست قوّتُـه بسلاح المسيّرات بل بسلاح الحضارات .
ثمَّ ، لو أنّ السلاح هو الذي يحمي الدول من الخطر الوجودي ، لكان وجود ما يزيد على مئتي دولة في العالم مهدّداً بالخطر ، ولكان في مقدور بعض الدول الكبرى أنْ تحتلّ سائر دول الأرض وتزيلها من الوجود .
يقولون : “هناك ثلاثة أخطار حقيقية على لبنان : الخطر الإسرائيلي ، والطغيان الأميركي ، والأدوات الداعشية …”
ولكن ، من أجل إزالة الخطر الإسرائيلي الوجودي يقتضي إزالة إسرائيل من الوجود ، ولا بـدّ كذلك من مواجهة الطغيان الأميركي بالطغيان اللبناني ، ولو أنّـنا نملك هذه القوة النارية الطاغية ، لما وافقنا على وقف النار ، لوقف طغيان التدمير والتهجير والإغتيالات فوق الأرض وتحت الأرض .
أمّـا خطر “الأدوات الداعشية” فإنّـه أكثر ما يستهدف المسيحيين كمثل تفجير كنيسة مار الياس في دمشق … وهل هذا يعني أنّ على المسيحيين أنْ يمتلكوا السلاح من أجل الدفاع عن وجودهم من الداعشية …؟
هذا مع العلم ، أنّ أيَّ خطرٍ وجودي على طائفة في لبنان هو خطرٌ على كلّ لبنان وعلى كيانه الوجودي .
إذا كان من شأن كلّ طائفة أنْ تدافع عن نفسها بسلاحها ، فيحلّ سلاحُها محلّ السلاح الشرعي للدولة ، فقد تتحوّل الدولة إلى مجموعات عشائرية متضاربة، وعلى المجلس النيابي إذْ ذاك أن يعدّل الدستور ، وعلى رئيس الجمهورية أنْ يعدّل خطاب القسم ، وعلى الحكومة أن تتخلّى عن بيانها الوزاري ، ليصبح الخطر الوجودي لكلّ طائفة يترنّح بين الوجود والعدم .
في كتابـهِ : “الوجود والعدم “يرى الفيلسوف الفرنسي جان بول سارتر” : “أن الوجود هو وجود إنساني قبل كل شيء ، يتحّرك فيه الإنسان عبر إمكاناتٍ تجعل الأفعال ممكنةً ، فلا جبْـرَ ولا إكراه ولا وجود لإرادتين بل لمشيئةٍ واحدة …”
القول : إنَّ قـوةَ لبنان في ضعفـهِ لا يعني الإستسلام والتخلّي عن سلاحه المقاوم ، بل هو يمتلك السلاح الأمضى لمبارزة إسرائيل بتفوّق ، إنّـه السلاح الحضاري والسياسي والسياحي والتجاري والخدماتي والثقافي والإعلامي والديمقراطي والإنفتاح على العالم بصيغة مثالية تسفّهُ العنصرية الصهيونية . إنـه سلاح اللّوبي اللبناني في المغتربات الذي بات يحتلّ مركزاً مرموقاً مؤثِّـراً في قرارات الأمم بما ينافس اللّوبي الصهيوني ويخلع الستائر التي تغطّي به إسرائيل جرائمها الوحشية ضـد إنسانية الإنسان .
أليس أنّ المغترب اللبناني “توم بارّاك” : هو الذي يتولّى المفاوضات في سوريا ولبنان باسم أميركا …؟
والمغترب اللبناني مسعد بولس مستشار الرئيس الأميركي دونالد ترامب للشؤون العربية والشرق الأوسط وإفريقيا ، مكلفٌ معالجةَ الأوضاع القائمة فيها ، ومن أمثالهما هناك في المغتربات ألوف من اللبنانيين البارزين .
في الملمَّات الكبائر لا بـدّ من إيقاظِ العقل عندما يكون راقداً على فراش الموت السريري .
وفي ملمّات حرب 1975 وجّـه الإمام موسى الصدر نـداءً إلى العقل “وشنَّ حملةً على السلاح الذي يستعمله المواطن بصورة وحشية ضـدّ مواطنيه ، والذي يعرّض الأمـة والوطن للإنفجار …” مجلة الحوادث : 11/7/1975 .
وعن الشرعية قال الإمام : لا حـلّ في لبنان إلاّ بإقامة الشرعية ، ولا شرعية إلا بتذويب الدويلات أياً كانت صيغتُها …” 30/7/1978 .
ثم راح الإمام الصدر يـؤنّب اللبنانيين الذين يتخلّون عن الوطن ويعرِّضونه للخطر فقال : “تركتم الوطن الفريد من نوعه والذي لا نملك غيره … هذه الأرض التي تعكس السماء ، وهذه الجغرافيا التي تمثلّ التاريخ وامتدّت إلى العالم كلّه فتبَلْورَ العالم منها …” 7/1/1976 .
لعلّ أبـرز المحن التي حلّتْ بلبنان ، هو هذا الهبوط في مستوى كبار الرجال أمثال الإمام موسى الصدر ، الذي كان إماماً لكل اللبنانيين ، وإماماً للبنان الوطن … أولئك الرجال الذين أنقذوا لبنان من خطر الفتوحات ، وحقّقوا وجوداً لبنانياً ضارباً في العالم ، ووجوداً حضارياً في التاريخ .
*كاتب المقال: وزير لبناني سابق.