تعرف الكعكة الصفراء في مجال العاملين في الفيزياء النووية بأنها تلك العجينة الصفراء المكونة من عنصري اليورانيوم الطبيعي، وهي مادة صلبة غير قابلة للذوبان في الماء تحتوي على 80% من اليورانيت. حيث يتكون اليورانيوم الطبيعي من عنصر اليورانيوم 238 ويشكل نسبة 99.3%، وعنصر اليورانيوم 235 بنسبة 0.7%، وتستخدم تلك الكعكة في صناعة وقود المفاعلات النووية، وفي مراحل متقدمة من تخصيب اليورانية يتم تخصيب تلك الكعكة للوصول إلى تصنيع السلاح النووي.
وللكعكة الصفراء ثلاثة استخدامات رئيسة هي:
– غاز سداسي فلوريد اليورانيوم، الذي يستخدم في عمليات التخصيب، كما هو الحال في نطنز وفوردو.
– أكسيد اليورانيوم، الذي يُستخدم لتزويد المفاعلات بالوقود.
– المعادن التي تُستخدم في تصنيع بعض أنواع عناصر الوقود وكذلك في تصنيع القنابل النووية.
وقد تمكنت الجمهورية الإيرانية على مدى سنوات من الوصول إلى تصنيع تلك الكعكة لتحقيق طموحهم الأزلي لصناعة القنبلة النووية لتصبح قوة ردع وازنة في الإقليم ومنطقة الشرق الأوسط، لتوسيع نفوذها في المنطقة في إطار استرجاع هيمنتها القديمة وعودة الإمبراطورية الفارسية، فقد أعلنت في ديسمبر 2010 أنها أنتجت، لأول مرة، محلياً مركزات خام اليورانيوم المعروفة بالكعكة الصفراء، ونقلتها إلى المفاعل لتكون جاهزة للتخصيب.
والحلم النووي الإيراني، حلم قديم ولد في عصر حكم شاه إيران محمد رضا بهلوي، في عام 1974، إلا أنه توقف في أعقاب قيام الثورة الإسلامية في عام 1979 على يد زعيمها آية الله الخميني العائد من فرنسا وقتها. وتجدد العمل في البرنامج في تسعينيات القرن الماضي بتجديد العمل في الموقع باتفاق مع روسيا، ولكن تأخرت روسيا بسبب مناقشات في مجلس الأمن الدولي وصلت لإصدار قرار بمنع تخصيب اليورانيوم في إيران.
وفي آواخر 2007 تسلمت إيران من روسيا أسطوانات “اليورانيوم المخصب”، وتم ربط المفاعل بشبكة الكهرباء الإيرانية في سبتمبر عام 2011 لتوليد 700 ميجاواط من الكهرباء، وفي أغسطس 2013 أكدت الوكالة الدولية للطاقة الذرية بأن المفاعل يعمل بكامل طاقته.
وأثارت تصميمات المفاعل التي تجمع بين النماذج الروسية والألمانية مخاوف تتعلق بالسلامة؛ نظرا لقربه من صدع كبير ومنطقة شهدت زلازل متكررة.
وقد بدأت محادثات استغرقت ما يزيد على العامين بوساطة سرية من سلطنة عمان حتى تم توقيع الاتفاق النووي الشهير بين إيران والقوى العظمى الخمس برعاية منظمة الأمم المتحدة في صيف 2015، ليتم بموجب هذا الاتفاق سقوط عدد كبير من العقوبات عن إيران، والإفراج عن عشرات المليارات من أموالها في الخارج، لتبدأ انتعاشة اقتصادية، إلا أنها وجهتهت لخدمة مشروعات الهيمنة والسيطرة على أذرعها ووكلائها في المنطقة، واستكمال طموحها النووي، وظلت البلاد في انتكاسة اقتصادية مستمرة حتى اليوم.
وفي عام 2018 انسحبت أمريكا من الاتفاق النووي بمجئ دونالد ترامب رئيسا في ولايته في تلك الفترة، وبعد الانسحاب الأمريكي، كانت الفرصة أمام إيران لعدم الالتزام وسعت إلى تخصيب اليورانيوم بنسبة 60%، وأكد الخبراء بأن إيران على وشك الدخول إلى منطقة صناعة السلاح النووي، أو بالفعل أصبحت دولة نووية.
هنا جُن جنون أمريكا وحلفائها الغربيين ودولة الاحتلال الإسرائيلي التي لا تريد دولة نووية في المنطقة سواها، إلى أن جاءت ساعة الحسم وقررت أمريكا ضرب البرنامج النووي الإيراني بيد إسرائيل، وبلعت إيران الطعم بأن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب كان عازما على إعادة المفاوضات بشأن البرنامج النووي الإيراني بعد عودته مرة أخرى رئيسا للولايات المتحدة الأمريكية. وقامت سلطنة عمان بنفس الدور القديم في رعاية المفاوضات بين الأطراف الأمريكية والأوروبية مع إيران، واستضافتها، إلا أن الضربة الإسرائيلية وجهت إلى إيران قبل جولة جديدة من المفاوضات كان من المفترض أن تستضيفها العاصمة العُمانية “مسقط”.
ومع توجيه ضربة استراتيجية من الطرف الإسرائيلي استهدف فيها مواقع عسكرية واغتيال عدد كبير من القيادات العسكرية على رأسهم رئيس أركان الجيش الإيراني و14 عالما من أهم وأكبر علماء الفيزياء النووية، كان من المنتظر أن يكون الرد الإيراني كالعادة مجرد رد اعتبار بضربات تمثل حفظ ماء الوجه.
وسرعان ما انطلقت تحليلات واشتعلت مواقع التواصل الاجتماعي بتعليقات عن إيران الضعيفة والتي لن تتمكن من رد مماثل على دولة الاحتلال الإسرائيلي.
ولكن، كانت المفاجأة التي تمثلت في رد فوري بوابل من الصواريخ الباليستية والفرط صوتية، والأخيرة تتميز بأن أسلحة الدفاع الجوي الإسرائيلية لا تتمكن من إسقاطها.
وتمكنت إيران من تكبيد الطرف الإسرائيلي خسائر فادحة اقتصاديا وعسكريا، علاوة على الهزيمة السياسية التي لحقت برئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو أمام شعبه والعالم، بعد أن وصلت الصواريخ الإيرانية، ولأول مرة في تريخ دولة الاحتلال، إلى عمق عاصمتها دولة الاحتلال “تل أبيب”، وتلألأت سماء “تل أبيب” بنيران إيران في مشهد مفرح وشمتت فيهم كل الشعوب العربية والإسلامية، بل والمجتمعات الغربية التي تنكر أفعال دولة الاحتلال الإسرائيلي بحق الشعب الفلسطيني.
ومع استمرار المواجهات بين إيران وإسرائيل خلال عشرة أيام، حيث بدأت الاعتداء الإسرائيلي على إيران فجر الجمعة 13 يونيو 2025، كانت الخطوة المتوقعة من الدعم الأمريكي لتوجيه ضربة استهدفت أهم مواقع البرنامج النووي الإيراني، وهي “نطنز” و”فوردو” و”أصفهان”، ويعد موقع “فوردو” هو الأهم نظرا للتحصينات القوية ووقوعه على عمق حوالي 80 متر تحت الأرض، وأمريكا هي الدولة الوحيدة في العالم التي تملك الصواريخ الخاصة بتدمير المواقع المحصنة والعميقة وذات الطبيعة الصخرية والجبلية. وأعلن الرئيس الأمريكي “ترامب” عن نجاح العملية تماما وأنها دمرت مواقع البرنامج النووي الإيراني.
ومع إعلان “ترامب” نجاح الضربات الأمريكية في تدمير المواقع النووية في إيران، إلا أن إيران نفت مباشرة وقوع أي خسائر للبرنامج سوى بعض الأضرار في البنية التحتية السطحية، ولم تتمكن الصور الملتقطة بالأقمار الصناعية بالتحقق من نجاح الضربات الأمريكية استراتيجيا، وجاءت التحليلات للضربة الأمريكية متناقضة في إشعار يوحي بعدم جدوى الضربات لمواقع البرنامج النووي الإيراني، وأن إيران مازالت تخرج لسانها للجميع.
ومع اشتداد الموجهات كانت المفاجأة بقيام إيران بضرب قاعدة العديد الجوية في قطر، الأمر الذي سيزيد من اشتعال الموقف ودخول المنطقة برمتها في حرب لا يعلم مداها؛ لتعلن أمريكا وقف إطلاق النار بين إيران ودولة الاحتلال الإسرائيلي، في شكل يوحي بوساطة أمريكية لإحلال السلام، الأمر الذي فسره البعض بأن المسألة كلها لم تخرج عن كونها تمثيلية معدة سلفا بين الأطراف الثلاثة (أمريكا وإيران وإسرائيل)، وإن كنت أستبعد ذلك.
إن الساعات القليلة القادمة ستكشف عن حقيقة حرب “الأيام العشرة” وعن مدى جدية تلك المواجهات أو أنها فعلا تمثيلية معدة سلفا.
ومن المهم جدا الإشارة إلى أن البرنامج النووي لأي دولة طامحة للوصول إلى صنع سلاح نووي يتوفر، في الأساس، في توفير البنية التحتية اللازمة، وتتطلب تلك البنية في:
– مراكز البحث والمعامل.
– مواقع خاصة للتخصيب.
– مفاعلات نووية.
– مناجم نووية.
– العلماء والباحثين والخبراء في مجال تصنيع السلاح النووي.
وكل ما سبق، نجحت إيران في توفيره على مدار عقود، وبالتالي فهي مازالت قادرة على إعادة تموضعها مرة أخرى وتعويض ما خسرته للمضي قدما من جديد نحو حلمها النووي. وفي تقديري، أن من يعرف طبيعة العقل الإيراني، يدرك أن ما حدث قد يكون في صالح إيران التي أعلنت بوضوح وفي شدة المواجهات أنها لن تستسلم ولن تتخلى عن حلمها النووي، وأنها لن تعود إلى المفاوضات في ظل استمرار محاولات لي ذراعها وتطويعها قسرا.
إن إيران أثبتت للعالم على مدار 10 أيام قدرتها على الرد والردع، بعد أن توقع الغالبية ضعفها وأنها “دولة هشة” وليس بوسعها إلا إطلاق التصريحات الحنجورية، وهو ما عجت به معظم وسائل التواصل الاجتماعي، وأطلقه عدد كبير من المحللين والمراقبين للشأن الإيراني.
إن إعلان “ترامب” وقف الحرب وإحلال السلام كشف في حقيقة الأمر ضعف استراتيجية الضربة الأمريكية، وأنها ما كانت إلا ورقة لجس النبض، وخرجت منها إيران فائزة بكل المقاييس، ولن تهدأ إلا بتحقيق حلمها حتى تصبح دولة نووية رادعة تملك زعامة نوعية في المنطقة.