حاولت أن أكتب في هذا المكان عن مأساة “فلسطينيو غزة” الذين يتألمون ويموتون جوعا في واحدة من أبشع جرائم الإبادة الإنسانية التي يرتكبها جيش الاحتلال الإسرائيلي ضد الشعب الأعزل.
حاولت أن أستحضر شجاعة الكاتب الذي يرتدي ثوب شجاعته مزخرفا من أحبار قلمه الملونة، وكلماته البراقة، وعباراته الرنانة، وفقراته الصارخة، ومقالات تدغدغ مشاعر قرائه، وربما كتب مقاله في غرفة “مكيفة الهواء” بعد تناول وجبة عشاء دسمة، مدخنا سيجارته أثناء احتسائه فنجانا من القهوة أو الشاي، فوجدت نفسي أمام نفسي أجبن الكُتاب، وأمام ضمير يتوارى خجلا من أن يكتب عن معاناة شعب لا يجد كسرة خبز أو شربة ماء!!
كيف نكتب ولا نملك إلا أن نكتب كلمات ونضفر عبارات لا يُجملها إلا فصاحة القول وبيان الكلام؟!!
في الطريق إلى رفح بشمال سيناء تحضر طوال الوقت أمام أعيننا صورة أشقائنا في غزة الفلسطينية وهم تحت حصار المجاعة الذي نسج خيوطه دولة الاحتلال الإسرائيلي في واحدة من أبشع جرائم الإبادة في تاريخ الإنسانية. نعم، لم يجد الكيان الصهيوني المتغطرس أفضل من “سلاح التجويع” الذي يبيد شعبا أعزل تحت الحصار، فجعل من “الجوع” قاتلا صامتا وبأقل تكلفة، فيموت الفلسطينيون “ذاتيا” من شيوخ وشباب وأطفال ورُضّع (!!).. فإذا ما سمعنا يوما عمن مات “جوعا”، فقد رأيناه اليوم رؤي العين وسمع الأذن في بث مباشر من مختلف تليفزيونات ووكالات أنباء العالم!!
إذا كان للعالم ضمير.. فقد توارى خجلا، وإذا كان للإنسانية آياد بيضاء فقد قُطِعَت، وإذا كان للشجاعة سيف فقد أُخمِدَ في غمده.
ها هي غزة تحت حصار الجوع.. وها هو العالم ينتحر ضميره على عتباتها!
ها هي غزة، يستشهد في أحضانها شعب أعزل.. وارتفعت في سمائها ترانيم الأرامل واليتامى.. وحملت شواطئها رسائل التبكيت والتنكيت!! ها هي غزة.. تباد أمام العالم.. وها هو ضمير العالم ينتحر على عتبات غزة!!
لقد انطلقت في الأسابيع الأخيرة حملة شعواء ضد مصر وقيادتها ممن خانوا وطنهم ووطنيتهم، وهاجروا لاستكمال عدائهم ضد الوطن من شاشات العملاء في الخارج والمتربصين بأمن واستقرار مصر؛ ليبثوا نار الفرقة بين شعب مصر وقيادته في أحلك مرحلة تمر بها البلاد من ضغوط وتحديات تهدد الأمن القومي المصري. ونحن، إذا كنا نتفق أو نختلف في المجموع مع كامل أو بعض مواقف النظام، لسبب أو لآخر، إلا أننا عند اللحظة الفارقة ندرك ونوقن معنى المسؤولية وأهمية الحفاظ على الوطن وصون مقدراته وأمنه، فلا مظلة تعلو فوق سماء الوطنية التي نستظل بها جميعا لمصلحة الوطن والصالح العام للجميع.
من أمام معبر رفح المصري بمحافظة شمال سيناء، كنا في مهمة صحفية لرصد ومتابعة حركة قوافل الإغاثة الإنسانية التي تتبرع بها مؤسسات الدولة الرسمية ومؤسسات العمل الأهلي، علاوة على مساعدات من الدول الشقيقة والصديقة لإنقاذ شعب غزة المحاصر بسلاح المجاعة من دولة الاحتلال الإسرائيلي. وقد رأينا بأعيننا كافة الاستعدادات والإمكانيات التي تكفل الحياة اليومية لشعب غزة بكل كرامة وأمان.
لقد رأينا مركز الخدمات اللوجيستية الذي وفرته الحكومة المصرية لاستقبال المساعدات الوافدة من خارج مصر من الدول العربية والأجنبية، كما رأينا صفوفا طويلة من الشاحنات المحملة بمختلف المواد الإغاثية من أغذية وأدوية ومستلزمات طبية، ولو وصلت هذه الشاحنات بأمان وسلام إلى الأشقاء في غزة، ما وصلنا إلى هذا المستوى من الأزمة التي يمر بها القطاع.
ولكن ما يحدث لتلك القوافل التي تعبر من الحدود المصرية عبر معبر رفح البري هو أن قوات الاحتلال الإسرائيلي المتحكمة في المعبر من ناحية الحدود الفلسطينية مع مصر هي من تمنع دخول تلك الشاحنات نكاية في الشعب الفلسطيني الأعزل في غزة. وفي واحد من أصعب المشاهد أن ترى الشاحنات عائدة دون تفريغ حمولتها من المساعدات، وهو ما تتعمده القوات الإسرائيلية.
وفي مؤامرة واضحة من جماعة الإخوان المسلمين وأبواقهم الإعلامية في الخارج ينسجون “زورا وبهتانا” أن مصر تمنع مرور شاحنات الإغاثة الإنسانية وأن معبر رفح مؤصد في وجه تلك الشاحنات.
وما كان من مصر لتثبت موقفها أمام العالم أنها مستمرة في دعم ومساندة الشعب الفلسطيني وقضيته العادلة في غزة إلا أن أنزلت المساعدات جوا بواسطة طائرات عسكرية أنزلت مظلات جوية حاملة للمساعدات لعدة أيام على أهالي غزة.
مصر التي حملت القضية الفلسطينية على أكتافها منذ 77 عاما وإلى الآن.. لم ولن تتخلى عن تلك القضية التي تعد القضية الأولى والرئيسة في ملف الأمن القومي المصري، حتى وإن كان بيننا وبين الأعداء اتفاق سلام.
إن جهاد الفنادق والشاشات لن يكون كجهاد السلاح الذي رفعته مصر، نضالا باسلا ، ومقاومة رادعة، ودفعت فيه دماء أبنائها الشهداء (أحياء عند ربهم يرزقون).
لقد رصدت كافة وسائل الإعلام المحلية والعالمية فتح معبر رفح أمام المساعدات على مدار الساعة، وهو ما فند كذب وزيف الحملات الضارية المستمرة ضد مصر وقيادتها في محاولات وضغوط مستميتة لتهديد أمن مصر.
إنهم لا يريدون فتح معبر رفح أمام المساعدات الإغاثية لأهل غزة، لكنهم يريدون فتح المعبر أمام مرور جميع فلسطينيو غزة لتهجيرهم إلى سيناء، تصفية للقضية الفلسطينية وإنهائها، وتهديدا واضحا للأمن القومي المصري وفق ذلك المخطط المعروف، والذي تتصدى له أجهزة الدولة المعنية بكل حزم وقوة.
إن القضية لم تعد قضية معبر أو مساعدات، فمن أي معبر ستصل المساعدات، فمعبر رفح ليس الوحيد، وبأي طريق وأي اتفاق بين القوى الحاكمة سيكون الأمر وسيتم إنقاذ أهل غزة باعتبارهم ناسا من لحم ودم ومشاعر وأصحاب عزة وكرامة كبقية شعوب الأرض.. أما ساسة العالم وكباره لم تدق قلوبهم رحمة وشفقة وعطفا على أهل غزة!!
القضية يا سادة.. قضية ضمير لم يهتز له جفن حتى الساعة.. فقد انتحر ضمير العالم على عتبات غزة!!