في سياق القراءة النقدية الحديثة، تتعدد المقتربات التي تسعى إلى استكشاف النص الشعري المعاصر فتتجاوز السطحية التقليدية لتغوص في الأعماق الرمزية والدلالية قصيدة “حين مرَّت العاصفة” للشاعرة د. زبيدة الفول تُمثل نموذجًا شعريًا غنيًا يتيح للقارئ الناقد استنطاق دينامية النص من خلال تفاعل الحرف والصورة والإيقاع مع الوجدان الإنساني يتجلى في النص، بلغته المكثفة وتشابكه الرمزي، صراع الذات مع الشوق والوجود مما يُثير أسئلة فلسفية عميقة عن الهوية والحب والمصير لذا تعتمد هذه القراءة الفنية مقترب الحرف والرمز كمدخل لاستكشاف الأبعاد النفسية والديناميكية والاجتماعية واللغوية للنص وللوصول إلى تجربة شعرية تتجاوز المعنى التقريري نحو فضاءات التأويل المفتوحة وتبرز الإبداع الفني الذي يئن في عتمة الوجود.
تقول الشاعرة الدكتورة زبيدة الفول:
حين مرَّت العاصفة ”
(إلى من اجتاحني كما تُجتاح المرايا بالصدى)
مرَّ ظِلّكَ… كمخلوقِ وَهْمٍ
من شُقوقِ المعنى… ومن جِرَاحِ السؤالِ البعيدِ… البليّا
فتغيَّرْتُ…
كأنّي نسيتُ ملامحي،
ونسَّاني وجهُ الأرضِ منْ سكنوا التّرابَ حيّا
عَيْنُكَ؟
أمْ أن عُيوني تُسابقُ الآنَ موتي…
أهوَ صُدْفٌ؟
أمْ خَطُّ حياةٍ يُفجّرُ نبضي
كاعترافٍ لا يشتهي البوح،
كخطيئةٍ تُصلي لتغدو نقيّا؟
قلتُ لروحي: مهلاً…
فصاحتْ جراحاتي: “إليهِ… إليهِ… فما عاد في الحلمِ حيّا!”
أنا العاصية؟
أمْ قلبي الذي خانَ صمتي
وباحَ بسرٍّ توهّجَ في دمي خفيّا؟
كلّما قلتُ: صُوني اشتياقي…
ضِعتُ في الشوقِ — كأنّي نبيّةٌ ضلّتْ المَسْعى — ولمْ تَلقِ سَوِيّا
كلّما أدبرَ الوقتُ، عادتْ خطايَ إليكَ،
تُقسمُ أنّ الطريقَ إليك هو البدءُ والمُنتهى، وهو نفيُ الأزليّا
أأُخفيكَ؟
والوجدُ يصلّي على نبضيَ كأنّه يقينٌ أبديٌّ،
والحنينُ يُعيدُ خَلقَ القصيدةِ مِن قَبْلِ السُّويّا
أأغلقُ أبوابَ روحي؟
وفي داخلي تنمو احتمالاتُ عودتكَ،
تتكاثر كفصولٍ لا تعترفُ بالرُزناماتِ،
وتُزهر في خواءِ النسيّا
وحين يضيقُ الكلامُ…
تكتبني الشرايينُ على مَهلٍ:
“تعالَ… كأنّك المنفى والمأوى،
كأنك المدى والضياعا”
وتختنقُ في صوتي النّدايا
فدعني أُقبِّلُ هروبي نحوكَ
كما تُقبّل الذكرى شظايا
وأعلن — بعد احتراقِ المعنى — بأنّي هُزِمتُ…
وأنَّ هواكَ تفرّدَ بي…
كما تتفرّدُ النارُ في المعابدِ القديمةِ،
وتؤمنُ أن احتراقي… خلاصٌ لروحي الشقيّا
د. زبيدة الفول

حين أمسكتُ بطرف القصيدة، لم أكن أبحث عن المعنى بل عن الصمت الذي يتخلّله… أردتُ أن أرمقها لا بعين القارئ، بل بعين الكائن الذي يطرق الأبواب المُواربة في النص، تلك التي لا تُفتح إلّا لمن يقيم في اللغة لا خارجها.
هكذا شرعتُ في تفكيك القصيدة، لا لتجزئتها ولكن لأعيد تركيبها من الداخل جعلتُها على أقسام، كما يُقسّم العارف خلوته إلى أنفاس في كل قسمٍ رُكنٌ من ذاتها المخبوءة، وفي كل سطر ظلٌّ لمعنى لم يُكتب
أولا: المقترب الحرفي ومحفزاته
تُشكل القصيدة محاولة فنية لخلق أسطورة شعرية خاصة تتمحور حول الشوق كقوة وجودية تُعيد صياغة الذات، حيث يتجاوز الحرف دوره كوسيلة تعبير ليصبح أداة لاستكناه الذات والعالم. مستوحاة من التراث الصوفي والرمزي العربي، تُظهر عبارات مثل “مرَّ ظِلّكَ كمخلوقِ وَهْمٍ” و”تكتبني الشرايينُ على مَهلٍ” الحرف كجسر يربط بين الهيئة الشكلية والدلالة العميقة. تتعدد مستويات الحرف في النص، فهو يتجلى هيئيًا في الشكل اللغوي والإيقاعي، ودلاليًا في المعاني النفسية والوجودية، وتحويريًا في تحولات الذات عبر الشوق، وطلسميًا في الرموز الغامضة كالعاصفة والظل، وقناعيًا في تعدد وجوه الذات وبدلاً من العمل بمعزل تتفاعل هذه المستويات لتشكل نسيجًا شعريًا متكاملًا يُحول الحرف إلى أداة إبداعية تتحدى المألوف وتفتح أفقًا للتأويل مما يمهد لاستكشاف الأبعاد النفسية في النص.
ثانيا: البعد النفسي شظايا الذات في مرآة الشوق
من خلال مقاربة نفسية تحليلية، تكشف القصيدة عن صراع الذات مع الشوق كقوة مُحطمة ومُعيدة للتشكيل، حيث تتجلى هذه الثنائية في عبارة “كأنّي نسيتُ ملامحي” التي تُشير إلى انقسام الذات بين صورتها الواعية ورغباتها اللاواعية، مستحضرة مفهوم يونغ عن “الظل” كجزء مكبوت من الشخصية. الشوق، كما يظهر في “أمْ قلبي الذي خانَ صمتي”، يُمثل طاقة دافعة تُجبر الذات على مواجهة هشاشتها، مُفصحًا عن سرٍّ دفين يتحدى الضبط الواعي. الحرف هنا يتحول إلى أداة فنية تُجسد هذا الصراع، إذ تُحيل اللغة الشعرية الشوق إلى تجربة نفسية مكثفة تُعيد صياغة الهوية. وبالتالي، فإن الثنائية بين “أنا” و”الآخر” تُبرز صراعًا نفسيًا يتمحور حول الرغبة في الاتحاد والخوف من الضياع، مُضفية عمقًا فنيًا يربط الصراع الداخلي بالحركية الديناميكية للنص.
ثالثا: البعد الديناميكي الحركة بين المنفى والمأوى
تتدفق الحركية الديناميكية في القصيدة، موصولة بالبعد النفسي، من خلال صور مثل “كلّما أدبرَ الوقتُ عادتْ خطايَ إليكَ”، حيث يُشكل الحرف إيقاعًا فنيًا يُعزز هذه الحركة الدائرية غير الخطية التي تعكس مفهوم كيركيغارد عن القلق الوجودي. تُواجه الذات، في هذا السياق، حريتها ومسؤوليتها في اختيار مصيرها، كما تُجسد عبارة “كأنّك المنفى والمأوى” ثنائية الاغتراب والانتماء. الحرف، بتشكيلاته الإيقاعية مثل التكرار في “إليهِ إليهِ”، يُصبح أداة فنية تُجسد هذا التوتر، مُحيلًا الشوق إلى قوة دافعة تُحرك الذات ولكنها تُبقيها أسيرة دائرة لا نهائية من السعي والفقدان. هذه الحركية، بإيقاعها الشعري، تربط الصراع الداخلي بالبعد الاجتماعي، حيث تواجه الذات قيود المجتمع.
رابعا: البعد الاجتماعي الذات في مواجهة القيود
متصلًا بالديناميكية، يكشف البعد الاجتماعي، عبر مقاربة سوسيولوجية، عن صراع الذات مع القيود الاجتماعية التي تُحاول كبت الشوق والتعبير عن الذات، كما في “أمْ قلبي الذي خانَ صمتي” التي تُبرز التوتر بين الرغبة الفردية والصمت المفروض. الحرف يتحول هنا إلى وسيلة فنية للمقاومة، حيث تُصبح اللغة الشعرية فضاءً للتحرر من هذه القيود. الذات، كما تُصورها القصيدة، تُعاني من الاغتراب عن “منْ سكنوا التّرابَ حيّا”، مُظهرةً انفصالها عن الجماعة بسبب شدتها العاطفية. يعكس هذا الصراع مفهوم هيغل عن الوعي بالذات في مقابل الآخر الاجتماعي، حيث يُصبح الشوق خطيئة تُهدد تماسك الفرد ضمن النسيج الاجتماعي. ومن ثم، يُتيح الحرف، بتشكيلاته الرمزية، خلق فضاء فني بديل يُعبر عن حرية الذات، ممهدًا لاستكشاف البعد اللغوي.
خامسا: البعد اللغوي
متصلًا بالأبعاد السابقة، يبرز الحرف، عبر مقاربة سيميائية، كعنصر فني مركزي في بناء الدلالة وخلق الأسطورة الشعرية. الصور الرمزية مثل “العاصفة” و”الظل” و”المرآة” تُشكل علامات تحمل دلالات متعددة، تتراوح بين الاضطراب الداخلي والحضور الغامض للآخر. يُحيل الحرف، بتركيبته الشكلية والإيقاعية، التجربة العاطفية إلى فضاء تأويلي مفتوح، كما في “تكتبني الشرايينُ على مَهلٍ” التي تُظهر الحرف كجسد حي يُشارك في خلق الذات. التكرار والإيقاع، كما في “إليهِ إليهِ”، يُعززان الإحساس بالتوتر والشوق، مما يجعل الحرف فضاءً لاستكشاف الذات والعالم. هذا الاستخدام الحرفي يُبرز قدرة الشاعرة على تحويل اللغة إلى أسطورة شخصية تتجاوز المعنى الظاهر، مُمهدًا لتكامل الأبعاد في تجربة شعرية متماسكة.
التكامل بين الأبعاد.. الحرف كمحرك للوجود
تتفاعل الأبعاد النفسية والديناميكية والاجتماعية واللغوية، موصولةً بأدوات ربط فنية، لتقديم تجربة شعرية تُجسد صراع الذات مع الشوق والوجود. الحرف، كأداة فنية مركزية، يُشكل جسرًا بين هذه الأبعاد، مُحيلًا الشوق إلى قوة وجودية تُعيد تشكيل الذات. من خلال مقاربة وجودية مستوحاة من سارتر، تظهر الذات كحرة في اختيارها للشوق، كما في “أأُخفيكَ والوجدُ يَصْلي على نبضيَ”، ولكنها مُثقلة بمسؤولية هذا الاختيار. الثنائيات مثل “المنفى والمأوى” و”الهيئة والدلالة” تُبرز التفاعل بين السطحي والعميق، مُجسدةً قدرة الحرف على احتواء التناقضات وتحويلها إلى تجربة شعرية متكاملة. وهكذا، يربط الحرف الأبعاد في نسيج فني يُمهد لاستكشاف الرؤية الوجودية الاعمق.
مقاربة وجودية
تتجلى القصيدة، من خلال مقاربة وجودية، كتأمل فني عميق في صراع الذات مع الشوق والوجود، متفاعلةً مع أفكار سارتر وكيركيغارد وهايدغر. لدى سارتر، تُجسد الذات حرية مطلقة في اختيار الشوق، كما في “كلّما قلتُ صُوني اشتياقي ضِعتُ في الشوقِ”لكنها مُثقلة بمسؤولية هذا الاختيار حيث يُصبح الشوق مشروعًا وجوديًا يُعيد تشكيل الهوية وسط القلق، كما في “كأنّي نسيتُ ملامحي” ويُبرز كيركيغارد التوتر الداخلي كتجسيد للقلق الوجودي، حيث تواجه الذات الهاوية بين الرغبة في الاتحاد مع الآخر، كما في “إليهِ إليهِ”، والخوف من الفناء مُحولةً الشوق إلى قفزة إيمانية نحو المجهول. أما هايدغر، فتُمثل “العاصفة” و”الظل” رموزًا للوجود في العالم عنده حيث تُواجه الذات عبر الحرف والشوق، سؤال الوجود الأنطولوجي، كما في “احتراقي خلاصٌ لروحي الشقيّا” هنا والتي تُعبر عن الفناء كطريق للكشف عن الحقيقة الوجودية عندها يُصبح الحرف أداة فنية تُجسد هذه الأفكار مُحيلًا الشوق إلى تجربة وجودية تربط الفردي بالعام، مُمهدًا للخلاصة الفنية.
بوابة الحب والموت
في الختام، تُقدم قصيدة “حين مرَّت العاصفة” الحرف كأداة فنية لخلق أسطورة شعرية تتمحور حول الشوق كقوة وجودية، موصولةً بتفاعل الأبعاد السابقة. الحرف، بمستوياته الهيئية والدلالية والتحويرية والطلسمية والقناعية، يُصبح وسيلة لاستكشاف الذات في مواجهة العاطفة والقيود الاجتماعية والأسئلة الفلسفية تُلخص عبارة “احتراقي خلاصٌ لروحي الشقيّا” هذه التجربة حيث يُصبح الشوق، عبر الحرف بوابة للحب والموت معًا تتجسد الثنائية الصوفية بين الفناء والخلاص والقصيدة بلغتها الرمزية وإيقاعها المكثف، تُتيح للقارئ الناقد الغوص في أعماق الذات الإنسانية، مُستكشفًا من خلال الحرف أبعادًا لا نهائية للمعنى تتجاوز المألوف وتفتح أفقًا للتأويل المفتوح، مُحققةً إبداعًا شعريًا يئن في عتمة الوجود ويتلألأ في نور الشوق.
*الكاتبة: ناقدة وباحثة تونسية