
أيُّ عيـنٍ من زجاج يمكنُ أنْ تـرى مجازرَ الإبادة ومآتـم الأشلاء في غـزّة ولا تتفجّـع بالدمع …؟
أيُّ قلبٍ من القلوب القيصرية المتحجّـرة لا يخفقُ توجّعاً حيال مشاهد ترتعش لها جُثَـثُ الموتى …؟
أطفال غـزّة ونساؤها يتقاتلون بالطناجر للإستحصال على حفنةٍ من غذاء …
جحافلُ شبـه بشرية منهكةٌ تطاردها المسيّرات من مكانٍ إلى مكان ، على وقْـعِ أهوال الرعب والجوع والتشرّد والنزوح …
هناك من ينزح نحو المجهول ، وهناك من يلجأ إلى قوارع الطُرق وعلى منكبيهِ نعشٌ ورفش ، هناك من ينصبُ الخيام فوق المزابل ، ويتقصّى فُتاتَ القوتِ من القُمامة .
كيف تستطيعون أن تمزّقوا اللقمةَ بشراهةٍ من الرغيف وتأكلوها هنيئاً من دون أن تمزّق أحشاءَكم …؟
كيف تنامون مـلْءَ الجفون على فراشٍ من الحرير ، وملايين الآدميين تنام على فراش من الحشرات …؟
المبادىء والعقائد والمقاومات والبطولات والوطنيات والمؤتمرات تسقط ذليلةً هزيلة أمام معاناة شعب يعيش وفـق روزنامة يومية تحصي الأموات بالمئات ، والموت أهون عليه من الـذلّ …
أينَ هـمُ الذين حمّسوا حركة حماس ، وأين هي الساحات والمسيّرات والخنادق والبنادق والبيارق .. وكأنما “قتلُ شعبٍ آمـنٍ مسألةٌ فيها نظر”.
العالم العربي والإسلامي يحمل أيقونةَ القضية العربية الأولى ، والمؤتمرات حيال مأساة فلسطين تكاد تكون “لدعم العار مخافةَ أنْ يُمحى …” والعالم المتحضّر الذي يقف متفرِّجاً أمام مجازر نتنياهو ، يصبح هو أيضاً نتنياهو .
رُبّ قائل : إنّ مَـنْ يعترض على أعمال المقاومة ولا يتصدى لمجازر إسرائيل فهو متهم بالخيانة …
ومن أجل حسْمِ النزاع حول ذريعة الإتهام نقول : إنّ الهمجية الإسرائيلية لم تترك مجالاً لتبرير التواطؤ ، وإنَّ المنتجين السينمائيّين قد يعتمدون صورةَ نتنياهو كأبرز بطلٍ من أبطال أفلام مصّاصي الدماء .
ولكن ، هل إنّ المعركة مع إسرائيل هي معركة منبرية نقف بها على أطلال غـزّة ونُنشد أناشيد البطولة …؟
هل هي معركة بيانات وهجاء شعري وخُطَبٍ نستثسير بها الغرائز بهدف التسلّل إلى منطقة اللاّوعي العقلي ، فيما الواقع الميداني يتخبّط في بحور الدم …؟
وما هي قيمة الدفاع عن غـزة من أنفاق تحت الأرض ما دام الذين فوق الأنفاق قد أصبحوا تحت الأرض ، وما دامت غـزة أصبحت في حالة اللاّوجود .
ليس من حـقّ الغياري على القضية الفلسطينية إلاّ أن يذكروا : أنَّ أول مَـنْ نبّـه إلى الخطر الإسرائيلي التاريخي هم : ميشال شيحا ، كمال يوسف الحاج ، موريس الجميل ، شارل مالك ، وريمون إده وغيرهم …
وأولُ مَنْ حـذّر من خطر التحرُّش بإسرائيل من حدود لبنان هي القيادات المتَّهمة بالتواطؤ مع إسرائيل .
وأول مَـنْ عـرّض قضية فلسطين للتزعزع هي المنظمات الفلسطينية التي ضلّّت طريق فلسطين فانحرفت بها ثورة مسلّحة في لبنان والأردن ، وجعلتها متعدّدةَ الجنسيات بين فصائل تتوزّع بين الدول والعقائد والمحاور ، فأصبح بين الفصائل والفصائل فواصل ، وبين منظمة التحرير وحركة حماس نـزاعٌ حول فصيلةِ الدم .
لعلّ قطاع غـزة بعدما وَلَجْـتهُ الأقدام الإسرائيلية المتوحشة أصبح شبيهّاً بما جاء في التوراة عن “سدوم وعمورة” التي خسَفَها الله بسبب ما كان يقترفه أهلها من مفاسد .
ولكن ، لا يزال هناك أمـلٌ ليتخّذوا من المأساة إيماناً بوحدة الصف ، والتقاطِ المبادرة الدوليّة لحـلِّ الدولتين بمسعى سعودي فرنسي ، حتى لا نقول مع الشاعر الفلسطيني محمود درويش :
إنّا نفكّرُ في الدنيا على عجلٍ فلا نـرى أحداً يبكي على أحدِ .