
بقلم: ولاء عزو
فلننحت إرثنا من الأصول والتقاليد العتيقة بتلك الأنامل الناعمة، كأننا نطرّز ذاكرة الزمن بخيوط من رفقٍ وحنان. إنها شهقة إعادة الروح للجسد، إذ لا خلاص من انتكاسات الحاضر إلا بأن نلتفت إلى البراعم الصغيرة، تلك الوجوه التي تحمل في عيونها المستقبل قبل أن تدركه. فالبذور، مهما بدت هشة وضعيفة، قادرة على أن تنبت أشجارًا وجنات تشبه الأسلاف، لتعيد للمكان رائحته الأولى، وللزمان صلابته المفقودة.
لقد جربنا كثيرًا أن نعالج الكسور بالمسكنات، وأن نُرمم الشقوق في الجدران العتيقة بالطلاء، فما زاد ذلك إلا صدعًا فوق صدع. أما الدواء الحقيقي فهو في غرس القيم في النشء، وغرز الاحترام في قلوبهم كما تُغرس الجذور في تربة عطشى. إن كل خيط من الصدق، وكل ومضة من الأمانة، وكل بذرة من المحبة والرحمة، هي لبنة في بناء الغد، لا ينهدم ما دامت قائمة في وجدان أبنائنا.
فلنرفئ تلك الملابس الهرئة التي تصيب الروح ببردٍ لا يزول، وتكشف أكثر مما تستر. فما أكثر ما ارتدينا عبر السنين أثوابًا من مظاهر براقة، لكنها في حقيقتها خيوط بالية تتداعى عند أول امتحان. إن القيم إذا تآكلت، فلا دفء يحمي الضمير ولا حشمة تصون الوجدان. والثوب الحق ليس ما يغطي الجسد، بل ما يستر المعنى ويحفظ للإنسان إنسانيته. فإذا تهرّأ المعنى، غدت الأرواح عارية في زمن مكتظ بالأنظار، كأجساد تمشي مكشوفة وسط ريحٍ باردة، تبحث عبثًا عن دفء ضائع. وما أجمل أن نغزل من جديد، لا أقمشة تزول، بل قيماً خالدة، لتكون لنا كساءً يسترنا ويحمينا من برد الانكسار.
الأطفال ليسوا صفحات بيضاء فحسب، بل هم مرايا ناصعة تعكس كل ما نضعه أمامهم. إن تركناهم أمام زيفٍ، أعادوا إنتاج الزيف. وإن سقيناهم من نبعٍ صافٍ، سكبوا النقاء على العالم من حولهم. ولذلك، فإن الانشغال بإصلاح الكبار وحده لن يجدي، لأن الجدار إذا مال كثيرًا لا يُقوّم إلا بأن يُشاد بجانبه جدار جديد، أكثر استقامة وأكثر صلابة.
إنها مسؤولية جيلٍ أن يسلم للأجيال التي تليه مشعلًا يضيء لا جمرة تحرق، وأن يورّثهم إرثًا من القيم لا إرثًا من الخراب. فالحاضر مهما امتلأ بالعثرات والانتكاسات، يبقى قابلاً للنهضة إذا عرَفنا من أين نبدأ، والبداية دائمًا من الطفل الذي في حضن أمه، ومن الكلمة الأولى التي يلقّنها أبوه، ومن المثل الذي يراه في معلمٍ صادق، ومن قيمة تُغرس في قلبه وهو ما يزال طريًّا كالغصن.
فليكن عملنا إذًا موجَّهًا نحو الصغار، لا لنقيّدهم بقيود الماضي، بل لنفتح لهم طريقًا يُشبه الأجداد في أصالته، ويشبه المستقبل في اتساعه. عندها فقط، تتحول الشهقة الأولى إلى نَفَسٍ ممتدّ، يعيد للجسد وعيه، وللحياة معناها، وللأمة جذورها وأجنحتها معًا.