ليس كتاب Empire of Pain للمحقّق الأميركي باتريك رافي، ليس مجرد سرد لفضيحة دوائية، بل هو مرآة قاسية تعكس كيف تحوّل الطبّ في الغرب إلى صناعة لا يحكمها الضمير، بل السوق، ولا تتحرك وفق المعرفة، بل الربح.
إنّه كتاب يعرّي عائلة ساكلر، لكنه من حيث لا يريد يعرّي حضارة بأكملها.
عائلة ساكلر.. نموذج أم انحراف؟
يقدّم الكاتب صعود عائلة ساكلر بوصفه قصّة جشع استثنائية قادت إلى كارثة اجتماعية.
لكن قراءة أعمق تُظهر أنّ ما فعلته هذه العائلة ليس خروجًا عن النظام، بل امتثالًا كاملًا له.
فالذي صنع الأزمة لم يكن فقط دواء OxyContin، بل المنظومة التي سمحت بتضخم نفوذ الشركة وتبرير سلوكها تحت شعار: “التسويق أولًا… والإنسان لاحقًا”.
هنا تكمن خطورة الكتاب:
إنه يُشخْصنُ المأساة في عائلة واحدة، بينما الحقيقة أنّ الرأسمالية الدوائية هي التي صنعت “إمبراطورية الألم” قبل أن يصنعها ساكلر.
طبّ على هيئة شركة… وشركة على هيئة دولة
الكتاب يكشف بدقة أن شركات الدواء الغربية تعمل ككيانات سيادية:
تمتلك إعلامها
تموّل الجامعات
تؤثر في المشرّعين
تتحكم في نتائج الأبحاث
وتعيد تعريف معنى “المرض” و“العلاج”
ولعلّ أهم ما يقدّمه هذا العمل هو كشفه العلاقة الخطرة بين العلم والمال، حيث تصبح الورقة العلمية إعلانًا، والطبيب مروّجًا، والمختبر ساحة نفوذ.
لكن الكاتب — برغم جرأته — يتجنب الذهاب إلى النهاية الطبيعية لهذا التحليل:
هل هذا فساد عابر؟
أم بنية متجذرة في الحضارة الغربية الحديثة؟
الجواب حاضر بين السطور:
إنها بنية وليست صدفة.
السردية التي لم يكتبها الكتاب، رغم ثراء الكتاب بالوثائق والفضائح، إلا أنه يحجب زاوية أساسية:
أنّ ما حدث في الولايات المتحدة ليس سوى الوجه الداخلي لما يحدث منذ عقود في الجنوب العالمي — إفريقيا، آسيا، العالم العربي — حيث يصبح الجسد غير الغربي حقل تجارب رخيصًا وأداة لرفع أرباح الشركات.
Empire of Pain يصف انهيار الداخل الأميركي، لكنه لا يسائل كيف تُصدّر شركات الدواء هذا الانهيار إلى الخارج، ولا كيف يُستعمل الجسد المختلف — العرقي والثقافي — كموضوع اختبار لا كموضوع علاج.
بكلمات أخرى، يتوقّف الكتاب عند المرض… ولا يذهب إلى الاستشراق الصحي الذي يصنع المرض ويعيد تدويره.
بين الحقيقة والسرد… من يحكي قصة الألم؟
الميزة العظمى في الكتاب أنّه يبيّن كيف لم يعد المرض مسألة بيولوجية، بل سردية تُصنع وتُروّج وتُباع.
فمن يمتلك القدرة على تعريف “الألم” يمتلك القدرة على بيع “الدواء”.
ومن يتحكم في لغة الخطر، يتحكم في السوق.
ومع ذلك، يكتفي الكتاب بعرض قصة أميركية، بينما السؤال الأخطر:
من يملك سردية المرض عالميًا؟
ومن يقرر من هو “المريض” ومن هو “المُهِدِّد”؟
هنا يغيب عن العمل البعد السياسي للحرب الصحية التي تُدار عبر الإعلام، ومنظمات الصحة الدولية، والجامعات المموّلة، واللوبيات التي تصنع الخوف بقدر ما تصنع العلاج.
التحذير الأهم: الدواء ليس بريئًا
يخرج القارئ من الكتاب بدرس خطير:
الدواء قد يكون جزءًا من المشكلة، لا جزءًا من الحل.
فالمرض، كما تكشف الوثائق، ليس دائمًا حدثًا طبيعيًا، بل قد يكون:
قرارًا ماليًا
استراتيجية تسويق
صناعة خوف
توظيفًا سياسيًا
ومتى ما فُقدت الأخلاق، يصبح الجسد — أي جسد — مادة خامًا في اقتصاد لا يشبع.
لماذا يجب أن نقرأ هذا الكتاب؟
لأنه يكشف حقيقة لا يريد كثيرون الاعتراف بها:
أنّ الطبّ الحديث ليس محميًا من الفساد، وأنّ “العلم” وحده لا يكفي عندما تصبح الحقائق نفسها مُموَّلة.
ولكن — وهنا التحذير — يجب ألّا نقرأه بعين مبهورة، بل بعين ناقدة، لأن الكتاب رغم أهميته:
يبرّئ النظام ويتّهم العائلة
ينتقد النتيجة ويتجاهل الجذر الحضاري
يحصر الأزمة في أميركا ويغفل العالم
يتجنب نقد “المقدّس العلمي” ذاته
وبذلك، يحتاج القارئ العربي إلى أن يذهب خطوة أبعد من الكاتب نفسه.
خاتمة: إمبراطورية لا تزال قائمة
كتاب Empire of Pain ليس عن الماضي، بل عن الحاضر، عن عالمٍ يحكمه لوبي دوائي قادر على:
خلق المرض
وصناعة العلاج
والتحكم في الوعي
وإعادة كتابة الحقيقة
ولهذا، فإنّ الخطر الأكبر ليس ما فعلته ساكلر بالأمس، بل المنظومة التي تفعل الشيء نفسه اليوم ولكن بأسماء جديدة، وبطرق أذكى، وبسرديات أكثر إقناعًا.
إنه كتاب يجب أن يُقرأ…
لكن يجب أيضًا أن يُناقَش، ويُسائل، ويُفكَّك، لأنّ المعرفة وحدها لا تكفي لمواجهة إمبراطورية الألم، بل الوعي النقدي الذي يحوّل الألم نفسه إلى يقظة.
* الكاتبة: صحفية لبنانية متخصصة في الدراسات الاستشراقية والعلاقات الدولية.














