الإعلام وصراع الإنسان والآلة

منذ ساعتينآخر تحديث :
إبراهيم  الصياد
إبراهيم الصياد

 

بقلم: إبراهيم الصياد

في السبعينيات من القرن الماضي كانت عناصر غرفة تحرير الأخبار بالتليفزيون News Room عبارة عن اقلام وورق وتيكرز وكالات الانباء وأفلام ٣٠ و ١٦ ملليمترا يتم تحميضها في المعمل وتمنتچ في غرفة صغيرة بها ماكينة تسمى (المافيولا) وحدثت تطورات متلاحقة على مدار 55 عاما اختلفت فيها عملية انتاج الأخبار بشكل جذري!

و اليوم تشهد الخدمة الإخبارية في عصر الذكاء الاصطناعي تحولًا نوعيا ، في ظل الإعلام الرقمي حيث لم يعد السؤال هل سيغير الذكاء الاصطناعي عملية إنتاج النشرة؟ لكن السؤال هو كيف سيغيرها وبأي سرعة؟

في الواقع يحمل هذا التحول في طياته فرصًا هائلة وتحديات صعبة في آن واحد و دعونا نتساءل كيف يُستخدم الذكاء الاصطناعي في إنتاج الأخبار اليوم ونحن لدينا المحرر الإنسان والمحرر غير الإنسان أو بعبارة أخرى التحرير الآلي للأخبار (Automated Journalism) ؟

يُستخدم ال AI وهما حرفان اختصارا ل Artificial Intelligence أو الذكاء الاصطناعي بشكل أساسي في الأخبار التي تقوم على جمع وتحليل البيانات، على سبيل المثال انتاج التقارير السياسية المتعلقة بالاحداث الجارية والتقارير الاقتصادية عن سوق الأوراق المالية واسعار الصرف وتحليل نتائج مباريات كرة القدم على المستوى المحلي والقاري والنشرة الجوية weather forecast ، ومؤخرا تابعنا أشكال تغطية المرحلة الأولى من انتخابات مجلس النواب في مصر بالخارج والداخل.

ونقول، توظف الخوارزميات التي تستخدمها وكالات الانباء مثل Associated Press أو Reuters لتحرير اخبار سريعة ودقيقة وخالية من الأخطاء في ثوانٍ معدودة !

ما يساعد الصحفيين البشر في غرفة الأخبار كي يتفرغوا للتركيز على التحليل المعمق والتحقيقات الاستقصائية التي تحتاج فكر وتحليل الإنسان !
إن تدفق البيانات هو طبيعة الأخبار سواء كانت رقمية أو غير رقمية حيث يصل على مدار الساعة لغرفة تحرير الأخبار كم هائل من القصص الإخبارية المتنوعة سياسة واقتصاد ورياضة وطقس وفنون وحوادث أو كوارث طبيعية واخبار لها طابع اجتماعي feature اي لا يشترط أن تذاع بشكل آني !

ولهذا في عصر الذكاء الاصطناعي نحتاج إلى مساعد آلي في البحث والتحقق (Research & Verification Assistant) من الأخبار الواردة حيث يتم تحليل البيانات بالذكاء الاصطناعي خاصة الوارد الذي يتطلب تدقيق مثل مستندات قانونية، او بيانات حكومية، وهذا قد يستغرق للكشف عنه يدويًا وقتا طويلا كما تساعد أدوات الذكاء الاصطناعي في تتبع مصدر الصور ومقاطع الفيديو والبيانات للكشف عن المحتوى المُزيف أو المُعدل (Deepfakes) وهو تطور مهم في انتاج الأخبار الرقمية المدمجة Digital Integrated News

بعبارة أخرى الذكاء الاصطناعي يساعد على تحرير أخبار مخصصة لمستخدمي منصات فيسبوك وجوجل يتناسب محتواها مع اهتماماتهم وسلوكهم، مما يزيد من درجة التفاعل.

ولكن لاحظوا أن هذا قد يؤدي إلى إنشاء احيانا “غرفة صدى” أو اخبار تتكرر وتصبح ذات توجه معين !

التطور الأكثر إثارة في اعتقادي (الترجمة الفورية) اي يمكن ترجمة الأخبار إلى عشرات اللغات بشكل فوري تقريبًا، مما يوسع فضاء الجمهور المتلقي!
في العادة قد يستغرق المحرر ترجمة وتحرير خبر مرسل من إحدى وكالات الأنباء مابين 15 إلى 20 دقيقة وإذا تم استخدام الذكاء الاصطناعي في ترجمة وتحرير نفس الخبر فإن وقت تجهيزه لا يتعدى ثواني معدودة !

و الجديد أيضا تحويل المقابلات المصورة إلى نص مكتوب بدقة عالية، مما يوفر ساعات من العمل.

ليس هذا فقط بل يمكن للذكاء الاصطناعي اقتراح عناوين، أو تلخيص النصوص الطويلة، أو التحقق من القواعد النحوية والأسلوب التحريري ويتابع الشريط الإخباري News Bar و العواجل
Breaking News

ويساعد الذكاء الاصطناعي في غرفة الأخبار على تحقيق السرعة والفعالية بعبارة أخرى بث الأخبار العاجلة بعد وقت قصير من لحظة وقوع الحدث إذن تتم تغطية أوسع من إنتاج محتوى أكثر وتغطية احداث لم يكن في الاستطاعة تغطيتها سابقًا من غرف الأخبار المحدودة أو الصغيرة !

ويوظف ايضا الذكاء الاصطناعي في بناء تصورات تفاعلية للبيانات من خلال تقديم معلومات بيانية أو انفوجراف Infographic Data
ونتساءل … هل هناك خطورة ما للاعتماد التام على تقنية الذكاء الاصطناعي أو AI في انتاج الأخبار ؟

أصبح من السهل جدًا باستخدام أدوات الذكاء الاصطناعي المتاحة (مثل ChatGPT, Midjourney) كتابة تقارير إخبارية، وبث صور، وتسجيلات صوتية، ومقاطع فيديو قد تكون (Deepfakes) مزيفة وان كانت تبدو حقيقية تمامًا وهذا يهدد المصداقية ويشكل خطرًا على عملية بناء الوعي الجمعي.

ولا يجب أن نغض الطرف عن ما يسمى التحيز الخوارزمي (Algorithmic Bias) اي أن الذكاء الاصطناعي يعتاد على تكرار البيانات التي يتم تغذيته بها إذا كانت هذه البيانات تحوي تحيزات (على سبيل المثال، تحيزات عرقية أو جنسية )، فسوف تنتج هذه التحيزات في التقارير الإخبارية، مما يعزز الصور النمطية وعدم المساواة.

ما يخلق مشكلة أو أزمة الهوية والمصداقية في الإعلام !

بمعنى عندما يصبح من الصعب التمييز بين المحتوى المنتج بواسطة الإنسان ومثيله بواسطة الآلة قد تفقد وسائل الإعلام مصداقيتها وثقة الجمهور !
و هناك قلق حقيقي من أن يحل الذكاء الاصطناعي محل بعض الوظائف الصحفية، خاصة في مجالي كتابة التقارير الإخبارية ومراجعة البيانات و يؤثر على مهارات المحرر أو المذيع الإنسان أو يقف حجر عثرة أمام تنمية الوظائف الإعلامية فغرفة الأخبار التي يعمل فيها 10 محررين يمكن أن تدار بمحرر واحد أو اثنين على الأكثر !

إن الإعتماد المفرط على الذكاء الاصطناعي قد يؤدي إلى فقدان الفهم الدقيق للسياق، والحدس الصحفي، والقدرة على قراءة المشاعر الإنسانية وهي كلها عناصر حيوية في الصحافة الجيدة.

ورغم كل ما تقدم فإن المستقبل الناجح لإنتاج الأخبار لا يكمن في استبدال الصحفيين بالذكاء الاصطناعي، بل في التكامل بينهما. وسيكون النموذج الأمثل هو
أن المحرر الآلي يلعب دور المساعد القوي بتولى المهام المتكررة، وتحليل البيانات، وتسريع العمليات تحت قيادة وإشراف الصحفي البشري حيث يضيف السياق، والتحليل، والمساءلة، والأخلاقيات، واللمسة الإنسانية والقيم التحريرية و يطرح الأسئلة الصعبة، ويبني علاقات الثقة مع المصادر، ويفهم التعقيدات الخفية وراء القصة.

من هنا إنتاج الأخبار في عصر الذكاء الاصطناعي يشبه قيادة السيارة السيارة نفسها هي (المحرر الآلي) يمكنها أن تقود نفسها في ظروف معينة، وتنبهك للمخاطر، وتوفر لك الوقود، ولكن السائق هو (الصحفي) أو (الإعلامي ) الإنسان وهو من يحدد الوجهة، ويتخذ القرارات الأخلاقية في اللحظات الحرجة، ويضمن وصول الجميع بأمان.

في تصوري سيكون النجاح من نصيب غرف الأخبار والصحفيين الذين يتبنون هذه التكنولوجيا كأداة لتعزيز صحافة أعمق وأكثر دقة ومسؤولية، وليس كبديل عن جوهر مهنة الصحافة والإعلام في الإذاعة والتليفزيون!

*كاتب المقال: رئيس قطاع الأخبار الأسبق بالهيئة الوطنية للإعلام.

الاخبار العاجلة