
بقلم: أميرة جاد الله
المتحف المصري الكبير، ليس مجرد صرح أثري، بل “وثيقة دولة” تعيد تشكيل خارطة القوة الناعمة في الشرق الأوسط.
في اللحظة التي يُرفع فيها الستار عن المتحف المصري الكبير عند سفح الأهرامات، لا يشهد العالم ميلاد أكبر صرح أثري للحضارة المصرية فحسب، بل يشهد إعلاناً سياسياً وثقافياً مدوياً.. مصر تفتح بوابتها الكبرى إلى المستقبل، مؤكدةً على عمقها الحضاري الذي لا ينافس، لتُرسل رسالة واضحة إلى العالم والمنطقة في خضم الاضطرابات الجيوسياسية: هنا مهد الاستقرار والقوة الأقدم.
• وثيقة الإرادة.. المتحف “مشروع سيادي”:
إن المتحف المصري الكبير، الذي طال انتظاره، يتجاوز كونه متحفاً ليصبح وثيقة إرادة وطنية. إنه نتاج أكثر من عقدين من العمل، وتكلفة تخطت المليار دولار، وهو ما يجعله أكبر مشروع ثقافي متكامل في القرن الحادي والعشرين.
• الأبعاد التاريخية والمعمارية:
يقع المتحف على بعد كيلومترين فقط من أهرامات الجيزة، ويحتل مساحة تصل إلى حوالي 490 ألف متر مربع. هذا الموقع الاستراتيجي ليس عشوائياً، بل يهدف إلى إقامة حوار معماري مباشر بين الحداثة المتمثلة في تصميم المبنى الزجاجي المُثلث وبين عظمة الماضي المتمثلة في الأهرامات. هذا الجوار يُرسِّخ فكرة أن المشروع ليس مجرد عرض للآثار، بل جسر يربط مصر القديمة بمصر الحديثة.
• التحدي اللوجستي الأكبر:
يجسد المشروع قدرة الدولة على الإنجاز عبر تحديات لوجستية غير مسبوقة، أبرزها عملية نقل وترميم وتثبيت تمثال رمسيس الثاني (الذي يزن حوالي 83 طناً) في البهو العظيم للمتحف، وهي عملية تمت بدقة هندسية عالية لتجنب أي ضرر للأثر التاريخي، لتصبح رمزاً حياً على قوة التنظيم والمهنية المصرية.
استرداد السردية.. الحكاية المصرية بين كنوز العالم
يضم المتحف أكثر من 100 ألف قطعة أثرية، لكن أهميته العلمية والتاريخية تكمن في تركيزه على مجموعة واحدة: كنوز الملك توت عنخ آمون.
• عرض المجموعة الكاملة:
لأول مرة منذ اكتشاف مقبرة توت عنخ آمون عام 1922 على يد هوارد كارتر، تُعرض مجموعة كنوزه بالكامل في مكان واحد. يزيد عدد هذه القطع عن 5400 قطعة أثرية، تتراوح بين الأثاث الجنائزي والأسلحة والمجوهرات والمنسوجات، وتُعرض في قاعات مخصصة على مساحة تزيد عن 7500 متر مربع.
• العمق العلمي في الترميم:
المتحف يضم مركزاً للترميم والتحليل هو الأكبر من نوعه في الشرق الأوسط، يعمل وفق أعلى المعايير العالمية. هنا، يتم إجراء دراسات وتحاليل دقيقة على المواد الأثرية (كيميائية، فيزيائية، ميكروسكوبية)، مما يضمن الحفاظ على هذه الكنوز للأجيال القادمة، ويؤكد على الاستقلالية العلمية لمصر في التعامل مع تراثها.
• ركيزة الاستقرار:
المتحف كقوة ناعمة إقليمية في منطقة الشرق الأوسط التي تتسم بالتوتر وعدم الاستقرار، يمثل افتتاح المتحف الكبير إعلاناً صريحاً عن استدامة قوة الدولة المصرية وعمقها الحضاري.
• رسالة إلى الجوار:
بينما تعاني دول إقليمية من تهديد تراثها أو تدميره، تستثمر مصر في بناء صرح يحمي ويعرض هذا التراث بأفضل شكل ممكن. هذا التفوق الثقافي يعزز دور مصر كـ “مرساة ثقافية” وحضارية في الإقليم، ويجعلها وجهة رئيسية للسياحة الثقافية المستدامة.
• بناء الوعي والهوية:
المتحف ليس مخصصاً للسياح الأجانب فقط، بل صُمم بوعي ليكون مساحة لـ إعادة تعريف الهوية المصرية وربط الأجيال الشابة بتاريخ أجدادها. متحف الطفل والأنشطة التفاعلية تعزز هذا البعد، مما يجعل الاستثمار في المتحف استثماراً في الوعي الوطني.
نافذة المستقبل.. التكنولوجيا التي تحكي التاريخ:
المتحف المصري الكبير هو أول متحف في مصر يعتمد بشكل شامل على تكنولوجيا العرض الرقمي والتفاعلي.
• التجربة التفاعلية الذكية:
يتم توظيف تقنيات متطورة مثل شاشات اللمس التفاعلية، ونظارات الواقع الافتراضي (VR) التي تسمح للزائرين بـ “الدخول” إلى مقبرة توت عنخ آمون أو مشاهدة الحياة اليومية للمصريين القدماء. هذه التقنيات تحول المشاهدة السلبية إلى تفاعل معرفي عميق.
• الاستدامة والريادة المعمارية:
من الناحية الهندسية، اعتمد المتحف على معايير الاستدامة الحديثة، من أنظمة الإضاءة الذكية التي تحافظ على القطع الأثرية إلى الأسقف العازلة التي تقلل من استهلاك الطاقة. هذا الجمع بين الاهتمام البيئي والتاريخي يضع المتحف كنموذج رائد عالمياً في المتاحف الخضراء والذكية.
خاتمة:
إن افتتاح المتحف المصري الكبير هو لحظة فارقة في تاريخ مصر الحديث. إنه ليس فقط احتفاءً بعظمة الماضي، بل هو إثبات لقدرة الحاضر ورسالة للمستقبل. المتحف، بتصميمه المبتكر ومحتواه العلمي ورمزيته السياسية، يُعلن للعالم أن مصر تخطو بثقة على طريق التنمية والبناء، مستندةً إلى أعمق حضارة، وموظفةً أحدث تقنيات العصر. المتحف الكبير هو بحق “جواز سفر” مصر الجديد نحو القوة الناعمة التي لا تزول.
*كاتبة المقال: باحثة متخصصة في الشؤون السياسية والاقتصادية بمنطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا.
