·
من المعلوم أن القرآن الكريم نزل بمكة وكُتِب فى تركيا وقُرِأ فى مصر.
وإن صحّ أن يكون لتلاوة كتاب الله دولة فرئيسها بحق.هو الشيخ مصطفى إسماعيل..رحمه الله.
اسمه..
مصطفى محمد المرسى إسماعيل.
مولده..
وُلد فى قرية ميت غزال..مركز..السنطا.محافظة الغربية.فى ١٧-٦-١٩٠٥-
وقد عرفتُ من مذكراته التى كتبها بخط يده ومن كتاب الأستاذ كمال النجمى عنه.أنّه بِكرىُّ أبيه.أول من رأى أبوه من الأولاد.
وللشيخ مصطفى ثمانية أشقاء..ثلاثة من البنين .وخمس شقيقات.نشأ الشيخ مصطفى فى كنف أسرة مستورة الحال..فقد كان أبوه يملك اثنى عشر فدانا ورثها عن أبيه.وللشيخ مصطفى قصة عجيبة مع الكاتب الصحافى والأديب الشهير..أنيس منصور..الذى كان يُعدُّ برنامج عن المشاهير مع المذيعة اللامعة أنذاك..صاحبة برنامج.كاميرا تسعة.وكانت الحلقة التى أعدّها الأستاذ أنيس عن شيخنا..وكان قد اتفق معه على أن يقول.أنه نشأ نشأة فقيرة شقّ طريقه فى الحياة بجد ودأب بعد أن ذاق الجوع اتساقا مع نبرة الإشتراكية السائدة أنذاك والفكر الشيوعىّ الذى كان مسيطرا على السياسة فى وقتها.ولكن الشيخ مصطفى خالف ذلك وقال فى الحلقة…
أنه نشأ نشأة ثرية..فقد كان أبوه من مالكى الأرض.وكان يعيش فى بحبوحة من العيش.فأسرّها أنيس فى نفسه..وهاجمه على صفحات جريدة الأهرام.ولكنه اعتذر له بعد ذلك.
وفاته..
توفى الشيخ مصطفى إسماعيل فى..١٦-١٢-١٩٧٨-عن ثلاث وسبعين سنة.
يُعدُّ الشيخ مصطفى من أبرز شيوخ التلاوة فى مصر والعالم الإسلامى..فهو بحقّ رئيس دولة التلاوة بلا منازع.أتقن فن المقامات وقرأ القرآن بأكثر من تسعةَ عشرَ مقاما بفروعها بصوت عذب وأداء قوىّ..وقد عُرف عنه أنه صاحب نفس طويل فى القراءة المُجَوّدة.
سجل بصوته القرآن الكريم كاملا مرتلا..وقد ترك وراءه ثلاث مائة وألف تلاوة مازالت إلى اليوم تُقرأ فى إذاعات العالم العربى والإسلامىّ.
كان الشيخ مصطفى متميزا فى قراءته..كان يُطلق عليه مريدوه..الأسطى..فقد كان يَرْكبُ النغمات والمقامات.فى تلاوة تأخذ بالألباب…وكان يتنقل بسلاسة من نغمة إلى أخرى.وكان يعرف قدراته الصوتية بشكل مذهل.وكان يستخدم تلك القدراتِ فى الوقت المناسب بالشكل المناسب.
لقد استطاع بصوته الرخيم.وبحُنْجُرته الذهبية أن يمزج مزجًا عجيبا بين علم القراءات وأحكام التلاوة..وعلم التفسير وعلم المقامات مزجا ليس له مثيل..فهو فى ذلك الأمر غير مسبوق.
فهو المتفرد فى فنّه.فكان ينتقل بسامعيه من عالم الدنيا إلى عالم تسوده الروحانيات والسُّمو الأبقى.
والشيخ.مصطفى وهبه الله القدرة على تصوير المعنى.واستحضار رهبة القراءة وعلوية المعانى فى أفئدة سامعيه..فأنت مع سيدنا يوسف..عليه السلام.. فى الجب وفى قصر امرأة العزيز.ومع أسرته عندما رفع أبويه على العرش.عندما تسمعه يقرأ سورة يوسف.
وأنت فى ديار مدين..وتقف مع النّاس عندما رفع سيدنا موسى..عليه السلام…الحجر الكبير وسقى لهما.
إذا سعدت بسماع سورة القَصَص.
ولقد سمعته ليلة من ليالى الشتاء القارسة.وهو يقرأ فى سورة الحج..
(ولهم مقامع من حديد….)
تصوير رائع لم يعانيه أهل النّار والعياذ بالله.من ويل وثبور وعظائم الأمور.ثمّ اسمع سورة مريم.والحاقة وقصار السور.
*محمد رفعت أستاذ الشيخ مصطفى*
إذا كان الشيخ رفعت قد حاز قصبات السبق ووصل إلى مكانة عالية فى القراءة..فالشيخ مصطفى يدين له بالأستاذيّة..ووحدث ذات مرة أن الشيخ رفعت كان نائما.فقام على صوت الشيخ مصطفى وهو يقرأ..فأثنى عليه غاية الثناء.وتنبأ له بمستقبل مزهر فى عالم القراءة..وهذه شهادة من أستاذ كبير فى عالم القراءة.قرأ الشيخ رفعت فى أحد القصور الملكية بعد صلاة العصر..وكانت عصافير القصر فى حالة هياج شديد.كونشرتو عصافيرى يملأ جنبات القصرفصعد الشيخ رفعت على التخت..وبدأ الشيخ القراءة وما انجلى وتجلى حتى سكتت العصافير ووقفت على الشجرة التى يقرأ تحتها الشيخ رفعت فى سكون تام.
**الشيخ رفعت والشيخ مصطفى فى كفر الشيخ**
أحيا الشيخان الكبيران ليلة فى محافظة كفر الشيخ.وحدث أن قدّم الشيخ رفعت الشيخ مصطفى على سبيل الامتنان له ولموهبة.فما كان من الشيخ.مصطفى إلا أن صعد وبدأ القراءة دون أن يقدّم هو الشيخ رفعت..وصال وجال الشيخ مصطفى وانفعل معه كلُّ من كان حاضرٌ..واستخفهم الطرب.وتحركوا يمنة ويسرة..منفعلين مع الشيخ.والشيخ يدخل من مقام إلى مقام ويعمق الجواب والقرار.ثمّ نزل.
وصعد الشيخ رفعت..وما أن بدأ القراءة حتى أبكى الجميع.فاعتذر الشيخ مصطفى للشيخ رفعت وقبّل رأسه ويده.
وإذا رجعنا إلى طفولة الشيخ.فقد كان سريع الحركة يخرج للهو مع أقرانه..ذهب مع زملائه للاستحمام فى الترعة من غير إذن الشيخ.محمد أبو حشيش الذى لم ينج من فلكته أحد.فما كان من الشيخ إلّا أن عرف.فذهب وأخذ ثيابهم.ولم ينقذهم إلّا زميل لهم كان فى سعة من العيش.وكان الشيخ محمد أبو حشيش يضع علامة فى أجساد تلاميذ الكُتّاب حتى لاينزلوا الترعة.
فى سن السادسة ذهب الشيخ مصطفى إلى كتّاب الشيخ.عبد الرحمن أبو العينين.فحفظ ربع القرآن..ثمّ أكمل حفظ القرآن فى كتّاب الشيخ.عبد الله شحاتة.الذى كان بيته قريبا من بيت الشيخ مصطفى.وله الفضل فى تعليمه القراءة والكتابة والخط.وبعد ذلك قابل الشيخ..إدريس فاخر.وكان كبير مفتشى الكتاتيب.فلزمه الشيخ مصطفى ونعلم منه الكثير..وأثّر فيه غاية التأثير.ثمّ التحق بكتاب الشيخ محمد أبو حشيش.وكان يقسو على الطلاب..وكانت زوجته تشفع عنده للطلاب بعد هدايا العيش البتاوى.والقشدة والجبن القريش.
**الشيخ ومقلدوه**
قلد الشيخ مصطفى عدد ليس بالقليل من القرّاء.ولم ينج أحد من سطوة صوته المتفرد.فأصبح له مدرسة تخرج منها…غلوش.والدكتور أحمد نُعينع.والزامل.بل إن من القراء من قلده كأنّه هو.كالقارئ..فتحى المليجى..الذى عندما سمعته لأول مرة ظننته الشيخ مصطفى..وفى بلدتنا بيلا محافظة كفر الشيخ كان عندنا شيخ مُجيد فى تلاوة القرآن كان يقلد الشيخ مصطفى.الشيخ..محمد أبو سرحان.كان يقلده فى زيه وفى عمامته.وفى قراءته.رحم الله الجميع.
وقد بلغ الشغف بحبّ صوت الشيخ.أنّ المطرب..محمد عبد الوهاب.مطرب الأمراء والملوك كان يتخفى هو وكوكب الشرق المطربة أم كلثوم ويستمعون للشيخ مصطفى دون أن يعرفهم أحد..وقد قال عبد الوهاب عن الشيخ مصطفى.
الحمد الله الذى لم يجعل الشيخ مصطفى مطربا.وكانت أم كلثوم تحتفى به.وكان من مريديه.شكرى سرحان..وصلاح منصور.
قال عنه الشيخ أبو العينين شعيشع..إن الشيخ مصطفى يقرأ كما يريد مريدوه.
أحبه الملك فاروق..فقد كان قارئ القصر فى العهد الملكى.
*الشيخ مصطفى فى قبضة الشرطة*
ذات مرة طلبه الملك فلم يجدوه.فذهب قوة من الشرطة تبحث عنه بأمر من مصطفى بيه يكن ناظر الخاصة الملكية..وذهبت حملة الشرطة إلى قرية ميت غزال..فأتوه بيه إلى الملك.
وبعد أن قامت الثورة كان القارئ الذى يحبّه مجلس قيادة الثورة..وكان إذا دُعِى للقراءة وعبد الناصر موجود كان يقرأ..ولكم فيها جمال..
أحبّه السادات وكان يقلده.
وغربت شمس أعظم قراء القرآن فى القرن العشرين.فى ١٦-١٢-١٩٧٨-عن ثلاث وسبعين عاما.قضاها فى قراءة القرآن.ودفن فى قريته ميت غزال بناء عن وصية له.
رحم الله الشيخ رحمة واسعة.وأسكنه فسبح جناته.
* كاتب المقال: موجه اللغة العربية بالأزهر الشريف سابقا.