الحب في مرآة التعدد.. رحلة الوعي بين الامتلاء والاحتياج

26 أكتوبر 2025آخر تحديث :
آمال بوحرب
آمال بوحرب

بقلم: د. آمال بوحرب

‏‎المشاعر هي جوهر الحياة الإنسانية ونبضها الحيوي الذي يغذي الروح ويمنحها عمق التجربة الوجودية وهي القوة الدافعة التي تلهم الإبداع، وتشكل الجسور بين العقل والقلب، وتتجلى في الفن والأدب والفكر الفلسفي فحين تُدار المشاعر بحكمة، تخلق توازنًا دقيقًا يسمح للإنسان باكتشاف ذاته وعلاقاته بصدق ووعي فتمنح للحياة ألوانها ومعانيها وإلا فتصبح الحياة جافة بلا اشراق ..

‏‎يرى العالم النفسي “كارل يونغ “أن المشاعر حالات نفسية تنشأ من التفاعل بين الوعي واللاوعي، وتحمل طاقة تدفع نحو الذات والوعي العميق. أما فرويد فيفسرها كتعابير صراعات نفسية كامنة ترسل الفرد إلى السعي للتوازن النفسي ” :
‏‎“الحب لا يعطي إلا نفسه، ولا يأخذ إلا من نفسه.”
‏‎أي انه في جوهره تجربة وجودية ترمز إلى عطاء النفس واستقلالها ووعيها، والتزام وعشق مستمران رغم تقلبات الزمن.

غير أن المسكوت عنه في حياة الإنسان، حيث يحملنا إلى آفاق بعيدة تتداخل فيها قضايا وأيديولوجيات معقدة لا نحب أن نحيطها بالذكر. شخصيًا أرى أن الوقت قد حان لملاقاة تلك التبعات؛ فالحب أحيانًا يزهر من فجوات الفراغ الروحي، ومن ساحات الروح التي تتوق إلى الدفء والمعنى.
‏‎قد يدخل الرجل في علاقة جديدة دون ادراكً لمفهوم الخيانة، لأن ذاته قد تحطمت تحت ثقل الأعباء وضغوط الأدوار الاجتماعية بين صمته المفروض وحنينه القديم لأن يُرى ويفهم ويُحب خارج القوالب التقليدية في تلك اللحظة، ينبعث في داخله نداء خفي كأن روحه تطرق جدران وعيه تطلب بصيص حياة جديد،
تمتد يده نحو وهج امرأة يراها انعكاسًا لطاقة مهدورة يأمل أن توقظ ما غفا في أعماقه يبحث عنها ليجد ذاته.

‏‎تتجلّى مأساة الإنسان الكبرى في انقسام قلبه بين المرأة التي رافقته في رحلة الحياة وحافظت لذاكرته، وبين امرأة جديدة تعيد إليه توهج البدايات وتوقظ رجولته من سبات طويل فيقف الإنسان في هذه المفارقة بين الوفاء والحنين، بين الواجب والرغبة بين ما هو واقع وما يتوق إليه.

‏‎عالم النفس “كارل يونغ “أشار إلى أن الإنسان يبحث في الآخر عن صورته المفقودة، فالعلاقة الثانية هي مرآة لنقائصه الداخلية، ودعوة لمصالحة الذات؛ وعندما يعجز عن ذلك، يتوه في ظلال الآخرين باحثًا عن صدى وجوده المنكسر. أما الفيلسوف إيمانويل كانط فيرى أن الحب قيمة أخلاقية تتحقق حين يُعامل الآخر كغاية في ذاته، لا كوسيلة لملء الفراغ، وحين يتحول الحب إلى مجرد تسكين للألم، يختبر الإنسان حدود إنسانيته.

‏‎المفكر الإنساني” فروم “يذهب إلى أن الحب هو فعل ناضج ومسؤولية وقرار واعٍ إذ إن العلاقات التي تُبنى للهروب من رتابة الحياة تحفز على الوعي الداخلي. ما يحتاجه القلب بدايةً هو سلام مع الذات قبل أي لقاء خارجي.

‏‎المأساة الثانية تكمن في اختزال الحب بالعلاقة الجسدية فقط كثيرون يقلصون العاطفة إلى متعة سطحية، ويعتقدون أن الجسد هو مرادف الحب، وهذا تبسيط يفقد العلاقة عمقها الروحي اللقاء الجسدي الذي يخلو من الوعي لا يترك أثرًا حقيقيًا، فالمشاعر تقدر بمدى أعماق الأثر الذي يخلّفه الآخر في وعينا وذاكرتنا، وفي تساؤلاتنا عن ذواتنا.

‏‎الحب يمنح القدرة على الوفاء دون أن يفقد الشغف، ويبقي الشغف حيًا دون أن يمس إخلاص القلب هو تجربة إشراق داخلي تفتح منافذ الروح على الجمال والصفاء. القلوب أماكن مقدسة تستحق الاحترام، ومن يعبث بها طلبًا للدفء اللحظي يحصد وجعًا يلتصق بالروح كظل لا يفارقها.

‏‎في العصر الحديث، تشير الكاتبة” هانا أرندت” في كتابها “الحياة الإنسانية” إلى أن الحياة تجربة مستمرة والتغيير جزء أساسي من كينونة الإنسان فالتجربة متغيرة، والفهم الحقيقي للحب يحتاج إعادة تأويل تدمج بين التغير والالتزام، وتعكس طبيعة الإنسان المتبدلة وميله الدائم لتشكيل ذاته وعلاقاتها.. هنا يتساءل الإنسان: إلى أي مدى تعكس خيارات الحب تغيّر الذات وتطورها، وانفتاحها على تجارب جديدة؟ أو هل هي تعبير عن عدم ملاءمة الشريك الأول نتيجة ترتيب غير واعٍ للحياة؟ كل تجربة حب تمنح وعيًا أعمق بذاتنا، وتكشف كيف تتحرك القلوب وتختلف الاحتياجات حسب العمر والنضج.

‏‎أما “فيودور ديستويفسكي” فيرى الحب قوة روحية تفوق المشاعر العابرة، مصدر الحياة والروح، ومسار التحرر النفسي والروحي. وهو تجربة تعقّدها الآلام والتضحيات، اختبار عميق لإنسانية الإنسان الحب الحقيقي بحسبه التزام أخلاقي وروحي يتطلب مواجهة التناقضات الداخلية، كما قال:

‏‎“ما هي الجحيم؟ أنا أؤمن أنها العذاب الناتج عن عدم القدرة على الحب.”

‏‎ولعله يؤكد أن تقبل الآخر و قبول عيوبه، وادراك أن غيابه يعني غياب الحياة بمعناها الإنساني العميق من مشتقات هذه المشاعر الغريبة والمعقدة والجميلة .

‏‎ختامًا، يظل الحب حسب التجربة الإنسانية والوجودية مدخلا لكشف أعماق الذاتي ومنها يعود الإنسان إلى وعيه بذاته وبحياته، متجددًا رغم الأزمات، جامعًا بين الحرية والالتزام. كما قال “قيس ”

‏‎“والحُبُّ عطّرَ روحاً كي يُخَلِّدها

فَمَدَّ أمواجَهُ في الأرضِ طُوفانا

قد ماتَ قيسٌ..ولكنْ رُوحُهُ بقيَتْ

وَسَوفَ تَبقى معَ العُشّاقِ أَزمانا.”

‏وفي الحقيقة ورغم كل هذه التعريفات غالبا ما يخامرني عند كل كتابة عن المسكوت عنه السؤال نفسه

‏‎هل المشكلة تعود إلى عدم فهم المفاهيم؟

‏‎أم إلى الاختيارات الأولى المتسرعة؟

‏‎أم إلى طبيعة الإنسان المتغيرة؟

‏‎*الكاتبة: باحثة وناقدة تونسية.

الاخبار العاجلة