غالبًا ما يولد الإنسان حاملاً في صدره رغبة فطرية نحو الآخر، وعندما يظهر التعلق العاطفي يتجلى هذا الشغف كتوتر وجودي يربط الدفء بالأمان والاعتماد بالحرية لدى الطرفين على حد سواء، ويشير “جون بولبي” في نظريته إلى أن هذه الحاجة تشكل قاعدة آمنة تتكون في الطفولة وتتجدد في العلاقات الإنسانية، فكل فرد يسعى إلى رابطة تبادلية تمنح الطمأنينة وتحول الحب إلى جدلية بين الاقتراب والحفاظ على الاستقلال.
يجوز القول بان التعلق العاطفي يتجذر في الطفولة إذ يبني كل فرد نموذجًا داخليًا للأمان يؤثر في طريقة تفاعله مع الآخرين، وعندما يتعزز هذا الرابط هرمونيًا عبر مادة “الأوكسيتوسين “تتباين أنماط التعلق بين القلق والتمسك الزائد والتجنب والانسحاب العاطفي، ويصبح التوتر وجوديًا إذا اختل التوازن بين الحاجة للحميمية والحفاظ على الحرية كما يوضح “هيدغر” في مفهوم الوجود مع الآخر.
أما التعلق المفرط فهو في الحقيقة انحراف مرضي عن الحاجة الفطرية إلى القرب وعندما يتحول الشوق الطبيعي إلى اعتماد خانق يفقد الذات استقلالها ويولد دورات من القلق والألم، ويظهر الإفراط في الحب كخوف دائم من الفقدان يدفع إلى فرط التفكير والمراقبة ويثير لدى الطرف الآخر شعورًا بالحصار والانسحاب، فتنهار الرابطة إلى علاقة سامة تعيد إنتاج الصدمات الطفولية وتدمر الثقة، كما يمتد الخطر إلى العلاقات العائلية والمهنية، حيث يُعاق الاستقلال أو يتعرض الفرد للتلاعب العاطفي فتتحول كل علاقة إلى مصدر توتر يهدد الصحة النفسية ويصبح وعي الطرفين ضرورة لضبط الرغبة وتحويل العلاقة إلى تجربة غنية لا سجن نفسي

الأمثلة الأدبية على التعلق المفرط عديدة في رواية “مدام بوفاري” لغوستاف فلوبير، تُجسّد إيما بوفاري نموذج التعلق المفرط العاطفي، إذ ترفض حياتها الزوجية الرتيبة مع الطبيب شارل بوفاري وتغرق في علاقات رومانسية وهمية مع ليون ورودولف، مدفوعة بخيالاتها المستمدة من الروايات التي قرأتها. يتحول هذا التعلق إلى هوس يدفعها للاقتراض المفرط والانغماس في الديون، مما يفاقم معاناتها النفسية ويؤدي إلى انتحارها بتناول السم بعد خيباتها المتكررة، تاركة زوجها وابنتها في الخراب .
ويعد “سورين كيركيغارد” مثالًا حيًا على التعلق المفرط من خلال علاقته بـ”ريجينا أولسن”، فقد خطبها سرًا ثم فسخ الخطوبة بعد عام اعتقادًا منه أن حياته الفلسفية والدينية لا تتوافق مع الزواج، ورغم عشقه لها، استمر تعلقه بها إلى درجة الانهيار العاطفي وتجربة ألم داخلي عميق، مما يعكس تأثير التعلق المفرط على العقل والروح،
وعندما ننظر إلى التاريخ، نجد “قيس بن الملوح” (القرن السابع الميلادي)، شاعر الغزل العذري الأبرز، مثالًا كلاسيكيًا على التعلق المفرط العاطفي الذي تحول إلى هوس مدمر، إذ تعلق بـ”ليلى” ابنة عمه منذ الطفولة، ورافقه حبه طوال حياته رغم رفض عائلتها، مما دفع والده لأخذه إلى الحج للدعاء بشفائه، ولكنه تمسك بأستار الكعبة قائلاً: “اللهم زدني لليلى حبًا وبها كلفًا ولا تنسني ذكرها أبدًا”، فزاد تعلقه بدل أن يُعالجه، وهذا التعلق أدى إلى جنونه الشعري والنفسي حيث هام على وجهه ينشد قصائد تعبّر عن عذابه كقوله: “تعلقت ليلى وهي غِرّ صغيرة / ولم يبد للأتْراب من ثديها حجم”، فتحول حبه إلى مرض يسيطر على وجوده كاملا .
أما “نزار قباني” شاعر الحب العربي الحديث فقد عانى تعلّقًا مفرطًا بالمرأة تجاوز الغزل إلى التمرّد العاطفي والجسدي، وترك أثره في شعره بعد وفاة زوجته، فوصف الحب دائرة مغلقة من الشوق والتملّك، محوّلًا التجربة العاطفية إلى صراع داخلي بين الاستعباد الروحي والرغبة في التحرّر.
وفي عالم العلاقات السريع نواجه خيارات جدلية بين تقليص التعلق لحماية الجرح أو خوض الحب كاملًا مع مخاطره أو الامتناع عن الحب حفاظًا على النفس، ويصبح البحث عن التوازن الداخلي ضرورة لتحويل الرغبة إلى تجربة غنية تعزز الروح بدل أن تكسرها بحثا يوميا في علاقاتنا في حواراتنا في همساتنا في كتاباتنا .
وأخيرًا، أردت من خلال هذا الطرح أن أشارككم تجربتي الشخصية، فأنا رغم معرفتي بالمفاهيم الفلسفية والعاطفية أفرط أحيانًا بالتعلق بفكرة أو بصديق أو بصديقة أو برجل في المطلق وأحيانًا أشعر أن نصوصي تعكس “الوجود مع الآخر” والاغتراب، حيث يتحول التعلق إلى “صمت جنائزي” أو غيرة تولد صراعًا داخليًا، وعندما أرى في مخيلتي صورة الرجل أرفض أي نوع من العلاقات الخاصة التي أعرف أنها ستؤذيني نتيجة التعلق الزائد، فتصبح النصوص بمثابة “قصيدة أو أقصوصة حب قد أكون غيمة أو فيض من ماء” أعبّر عن انجراف نحو العدم بسبب التمسك المفرط، وهذا يُضيف بعدًا حديثًا للغزل ولكنه في الحقيقةهو الاعتراف وشهادة على هشاشة العلاقة العاطفية مع الشخص المفرط في التعلق، الذي يعاني في حيرة من امره.
أقول احيانا هل يجب تقليص التعلق لحماية الجرح العاطفي أم يجب مواجهة المخاطر بالحب الكامل؟
أو الحل في الحد من التجربة العاطفية وربما يتحول هنا الإنسان إلى كتلة باردة التفاعل ؟
اما السؤال المهم هو كيف يمكن للفرد أن يتعايش مع الرغبة والواقع في العلاقة بكل اشكالها ؟
ومع يقيني بأن تعلقي بالله وحده يمنحني استقرارًا داخليًا ومحبتكم لي تزيد طمأنينة قلبي فإني ازداد مع تقدمي في العمر ومع التجارب والنضج الفكري يقينا بأني لا اريد تغيرمفاهيمي، فالتعلق شكل من أشكال الحب في كل اتجاهاته ويمثل شعورا بالأمان ونوعًا من العطاء والثقة.
أحب بهذا الشكل المفرط في التعلق فأفرط في العطاء ولا أفكر في المقابل وإن كان هذا التعلق مرض فلا اريد أن أشفى منه رغم آثاره السلبية والمؤلمة على نفسي وأحيانا جسدي.
*الكاتبة: باحثة وناقدة تونسية.














