هنا، سقطت كل الأقنعة!!
هنا، نزع النقاب عن وجوه المنافقين!!
هنا، أسدل الستار على الفصل الأخير في مسرحية الدفاع عن الحريات وحقوق الإنسان وقوانينه الدولية!!
هنا، مُزِقَت كل أوراق السلام!!
هنا، لم نعد نصدق أن ما بيننا يجسد حوارا بين الحضارات أو أتباع الأديان.. فما بيننا لا يعدو كونه حوار الطرشان!!
هنا، لم نعد نعرف إلا عنوانا واحدا.. لم نعد نعرف إلا أن غزة هي عنوان الصمود ومدينته التي كشفت كل هذه الوجوه، وأسقطت كل هذه الأقنعة، ففي غزة مدينة للصمود تنتصر فيها المقاومة، وتنهزم فيها دولة الجبناء.
تمضي الحرب على غزة ودكها من قبل دولة الاحتلال الإسرائيلي في شهرها الثاني، وقد خلفت ورائها أكثر من 14 ألف شهيد من الأبرياء العزل الذين لا يملكون سوى لسان وكفوف الضراعة، فلبى الله دعاءهم وأنالهم الشهادة، ومن هؤلاء أكثر من خمسة آلاف طفل ليتصدروا قوائم الشهداء؛ إذ يتعمد العدو قتل الأطفال والنساء حتى يأمن من قدوم أجيال جديدة من المقاومة.
بعد أكثر من شهر ونصف الشهر فإن المقاومة الفلسطينية في غزة أثبتت صمودها في وجه المحتل الجبان، ولم يستطع العتاد الجبار لجيش العدو والتعزيزات العسكرية التي دفعت بها أمريكا وبريطانيا أن تهزم الحجارة والأنفاق وصواريخ “القسام” و”الكاتيوشا” التقليدية التي لا تملك المقاومة سواها، فلم يدرك العدو وداعموه أن العقيدة سلاح المؤمنين الذين عاهدوا الله على نصرة دينهم والدفاع عن عرضهم وأرضهم إلى أن يلقوا ربهم شهداء.
ونحن نتابع أخبار الأشقاء في غزة والحرب على أشدها في شهرها الثاني، وعلى قدر الألم إلا أن دواعي الفخر والإيمان بأن النصر نهاية مطافنا هو ما يثلج صدورنا، فموعد كل الشهداء مع الصديقين والأنبياء في الجنة.
على الرغم من هذا الحصار الذي طوق غزة من كل جانب، ومنع عنها الماء والغذاء والكهرباء، وقصف المستشفيات التي أصبحت ملاذ الفارين من نيران الحرب من النساء والأطفال والمسنين، إلا أن المحتل الجبان لم ينل من عزيمة المقاومين وأهاليهم إلا كل إصرار وصمود على المقاومة حتى آخر نفس.
وعلى الرغم من وجود الإنهزاميين والمنبطحين الذين يرفضوا دعم المقاومة وإمدادها وأهل غزة بالمساعدات الحياتية؛ بحجة أن حركة المقاومة الإسلامية (حماس) فصيل يتبع فكر جماعة الإخوان المسلمون التي تعادينا كدولة وشعب، إلا أننا نوضح لهؤلاء الإنهزاميين أننا في وقت السلم والاستقرار نرفض توجهات (حماس) وما تكنه لنا من أي عداء ونرفض كل ممارستها وفكرها ومنهجها.. ولكن في وقت مواجهة عدو كدولة الاحتلال (العدو الأول للعرب جميعا)، فنحن سنقف “وجوبا” مع المقاومة وكل فصائل المقاومة الفلسطينية التي تضع أنفسها في صدارة المواجهة على خط النار مع جيش الاحتلال.
وإلى هؤلاء نذكر بأن الدولة في مصر على أعلى مستويات دوائرها السيادية وقفت بجوار “المقاومة” وطالبت العالم أجمع باعتبار أعمال “المقاومة الفلسطينية” أعمالا مشروعة من حقوق الدفاع عن النفس، وقد تجسد هذا جليا في مؤتمر قمة القاهرة للسلام في أكتوبر المنصرم، ومؤخرا، في القمة الطارئة لمجموعة بريكس والتي خصصت لمناقشة أوضاع غزة، وقد شدد فيها الرئيس عبد الفتاح السيسي على موقف مصر الثابت من القضية الفلسطينية، مؤكدا أن الحرب على غزة كشفت عجز المجتمع الدولي وجمود الضمير الإنساني. إن ما حدث بعد عملية “طوفان الأقصى” في السابع من أكتوبر الماضي وحد موقف الشعوب والحكام، فصار الخطاب والموقف موحدا، وإن كانت حسابات الحكومات الرسمية تختلف بالطبع مع الحسابات الشعبية. على الرغم من صلف الآلة العسكرية وتوحشها مع الفلسطينيين في غزة ومقاومتهم، إلا أن جيش الاحتلال لم يحقق أي تقدم ملموس على الأرض، أو نصرا يقدمه إلى شعبه على أنه نصر عظيم، فلا يعتمد إلا على الغارات الجوية التي يدك بها منازل الأبرياء ومستشفيات المرضى التي تحولت إلى ملاجئ إيواء للفارين من ويلات الحرب.
وفي مواجهة الصمود لم تجد دولة الاحتلال، حفظا لماء وجهها، إلا الاستجابة إلى وساطة دولتا مصر وقطر لهدنة لمدة 4 أيام؛ لتبادل الأسرى من الطرفين وإدخال المساعدات الإنسانية إلى قطاع غزة المحاصر.. بعد أن أثبتت كل الدلائل أن جيش الاحتلال بكل عتاده لم ينتصر على المقاومة، وهذا ما أطاح به الإسرئيليون “غضبا” في وجه رئيس حكومتهم بنيامين نتنياهو الذي وعدهم باستعادة ذويهم من الأسرى لدى (حماس) معتبرا أنها مهمة مقدسة وعظيمة بعدما جلس معهم ولمس آلامهم.
ولكن، هل سيدوم أمد الهدنة أم سيستأنف جيش الاحتلال عملياته الغادرة مرة أخرى بحق الفلسطينيين في غزة في عملية إبادة واضحة وجريمة حرب متكاملة الآركان أمام أعين العالم؟!! إن مؤشرات ودلائل خسائر الحرب ليست فقط في الأرواح والعتاد العسكري، ولكن هناك ما هو أكثر فداحة، فعلى المستويات الاقتصادية والاجتماعية، نرى أن دولة الاحتلال تكبدت خسائر اقتصادية فادحة تجاوزت حتى الآن 4 مليارات دولار أمريكي، حيث تتجاوز في الشهر الواحد 2مليار دولار، وذلك بعد أن أصبحت كل المؤسسات تعمل بنصف طاقتها، وبشكل خاص في قطاعات السياحة، والزراعة، والصناعة، والنفط والغاز، علاوة على أن 80% من القوى العاملة ضمن قوات الاحتياط لدى جيش الاحتلال، وقوات الاحتياط (عددهم 456 ألف جندي) يتطلب دفع رواتب شهرية لهم 1.25 مليار دولار شهريا، وتفاديا لهذا العبئ المالي الكبير تفكر حكومة الاحتلال في تقليص عدد جنود الاحتياط. واجتماعيا، لا يخفى على أحد عدد الفارين من دولة الاحتلال بعد عملية “طوفان الأقصى” والذين قدر عددهم بخمسمائة ألف مواطن بعد ما شعروا بعدم الأمان وعادوا إلى دولهم الأصلية.
إن استئناف الحرب سيكبد حكومة الاحتلال خسائر مستمرة وفادحة، وبحسب آخر التقارير، فإن حرب غزة تعد أكبر صدمة للاقتصاد الإسرئيلي خلال العقدين الأخيرين، فقد أكدت وزارة المالية الإسرائيلية أن الخسارة الشهرية الناجمة عن الحرب على قطاع غزة تبلغ نحو 2.4 مليار دولار. وفي الجانب العسكري وهو الرهان الاستراتيجي في المعركة، فإن المقاومة تلعب على جر جيش الاحتلال إلى حرب استنزاف، حيث تكلفة الصاروخ الواحد الذي يطلق على غزة يتجاوز ثمنه 250 ألف دولار، وطلعة الطائرة في المرة الواحدة تكلفتها حوالي 50 ألف دولار، بينما أقل مدرعة في جيش الاحتلال سعرها نصف مليون دولار، ودبابات يصل سعرها إلى خمسة ملايين دولار.. إذن، فالخاسر الأكبر هو دولة الاحتلال وجيشه.. والمنتصر الأكبر هي المقاومة الفلسطينية بفضل صمودها.
وسيبقى الرهان قائما.. أن المقاومين لن يكونوا إلا صامدين من أجل أن تبقى فلسطين عربية.