الصين في ميزان السياسة الخارجية

آخر تحديث : السبت 25 مايو 2024 - 10:51 صباحًا
 بقلم: حاتم عبد القادر
بقلم: حاتم عبد القادر

تحتل الصين مكانة بارزة على المستوى العالمي لاعتبارات عدة، حيث تعد ثاني أكبر اقتصاد عالمي، ومن ناحية القوة العسكرية، يحتل الجيش الصيني المرتبة الثالثة عالميا، حيث يأتي ترتيبه بعد جيشي الولايات المتحدة الأمريكية وروسيا. أما من الناحية السياسية، فتأخذ الصين مناحي عديدة ومتنوعة في هذا الصدد طبقا لقناعتها وعقيدتها في إدارة الملفات السياسية على المستويين الداخلي والخارجي.

وعند الحديث عن السياسة الخارجية للصين، فإننا سنكون بصدد الحديث عن سياسة مختلفة عن الدول العظمى الفاعلة في المجتمع الدولي؛ إذ أن الصين تنتهج سياسة خاصة تقوم على الاحترام المتبادل وعدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول الأخرى، فهي تنسج علاقات تعاون قائمة على تحقيق المصالح المشتركة بما يخدم الطرفين. أبعد من ذلك، أنها تراعي في بعض الحالات تقديم خدمات وإقامة بعض المشروعات دون مقابل إلى بعض الدول في إطار ترسيخ وتوطيد العلاقات بين البلدين، وبما يؤسس لعلاقات تعاونية جديدة في المستقبل.

وترجع تلك الخاصية في ممارسة السياسة الخارجية للصين إلى عقيدتها الخاصة في هذا الشأن وهي اتباع “سياسة خارجية سلمية مستقلة”، وهي ميزة نسبية لجمهورية الصين الشعبية، التي تأسست قبل 75 عاما، فالصين دولة تحافظ على استقلالها الذي يُعَنْوِنُ سيادتها بما لا يقبل التدخل في شؤونها، وبالمثل لا تعمل على التدخل في شؤون الآخرين. بل إن السلام هو محور علاقاتها مع الدول الأخرى، كذلك تعمل على إقامة ونشر السلام بين الدول التي تعد الصين صديقا مشتركا بينهم.

فقد أصبحت للصين سياسة بنكهة خاصة كقوة عظمى في عالم اليوم، تخالف غيرها من القوى البراجماتية (النفعية)، فهذه “السياسة السلمية المستقلة” أصبحت منهجا فريدا للدبلوماسية الصينية؛ حيث أنها كما تهدف إلى تحقيق المصالح الصينية، أيضا، تحقق بالتبعية مصلحة الدول المتشاركة مع الصين بحسب نوع الشراكة.

فالصين ابتعدت كل البعد عن مظاهر الهيمنة وفرض القوة لخلق واقع محدد يفرض مصالح الدول المتدخلة، وهذا النمط يظهر “جليا” في علاقات الدول الغربية والولايات المتحدة الأمريكية بالدول التي كانت تحت ولاياتها عن طريق الاستعمار أو السيطرة السياسية والاقتصادية لاستغلال موارد تلك الدول والمضي قدما في ازدياد فقرها وعدم تقدمها.

وكما تسعى أي دولة على ترسيخ أقدامها في محيطها الإقليمي والدولي من خلال استراتيجيات خاصة بالحفاظ على أمنها القومي وفي القلب منه تحقيق التنمية الشاملة بما يحقق توازن قوتها أمام قوى العالم الخارجي، كذلك تحقيق تعاونا مشتركا (ذات مصالح متبادلة) لا يطغى فيها طرف على الآخر.. فإن هذه السياسة تقوم بها الصين، بمنهج فريد، خلق منها قوة عظمى مرحبا به في منطقة الشرق الأوسط والقارة الأفريقية، كحليف استراتيجي، يوفر العديد من الشراكات الاقتصادية المتنوعة.

كما دخلت الصين في منحى جديد في الوساطة السياسية في منطقة الشرق الأوسط لعبت من خلاله دورا فاجأ الجميع، علَ أبرزها الوساطة الأخيرة التي تمت في مارس من العام الماضي والتي على إثرها تم استئناف العلاقات الدبلوماسية بين المملكة العربية السعودية والجمهورية الإيرانية، والتي انقطعت في عام 2016 على إثر مهاجمة البعثة الدبلوماسية السعودية في إيران، ومثلت الوساطة الصينية نقطة تحول جديدة في المنطقة، كما أفرزت العديد من الأسئلة عن أسرار نجاح تلك الوساطة والتي مازال المحللون يكتبون أسبابها وتداعيتها إلى اليوم.

والإجابة في نموذج مبسط، هي أن الصين لا ترمي إلى أهداف استعمارية أو تحقيق نفوذ توسعي كما الحال لدى أمريكا، فهي كقوة اقتصادية عظمى تصل منتجاتها إلى كل بيت وكل مستهلك في جميع أنحاء العالم؛ هادفة بذلك تعظيم اقتصادها، ومحاربة الفقر، ولا ينحسر المنتج على فئة القادرين فقط، وبالتالي فهي تنتهج نهج “العولمة” بصورة مشرقة عن طريق تقديم العون وأن يعم الخير وتقديم الخدمات للجميع لا احتكاره، على عكس أمريكا والغرب الذين أرادوا أن تكون “العولمة” أداة للسيطرة الغربية على الدول النامية ودول الجنوب، على جميع الأصعدة السياسية والاقتصادية والاجتماعية.

وما يؤكد نهج السياسة الخاصة للصين، دعوتها لمراجعة النظام الدولي بعد نهاية الحرب الباردة بين أمريكا والاتحاد السوفيتي، وكان مؤداه ظهور “العولمة” والهيمنة الأمريكية التي جعلت العالم تحت نظام أحادي القطبية وجعلت الدولار الأمريكي هو العملة القياسية لكل عملات العالم ومدى قوة العملة المحلية داخل كل دولة؛ ولعل البيان الصيني الروسي الصادر في 4 فبراير 2022 عبر عن هذه المراجعة والاتجاهات.

ولأن هناك من يدفع إلى خلق حالة من التوتر بين الصين وأمريكا، بشكل خاص، وتجييش أجهزة إعلام خاصة لتغذية هذا التوتر في سعي حثيث لنشوب حرب باردة بينهما، إلا أن الصين تتمتع بكياسة وفطنة سياسية جعلتها في حالة صبر تحسد عليه، وما يترجم هذا الصبر محاولات تغذية الصراع بشأن مقاطعات “هونج كونج” و”تايوان” و”مكاو” وكلها أراضٍ صينية؛ وبالرغم من ذلك لم تفكر الصين في خوض حرب من أجل هذه الأراضي المسلوبة.

وفي هذا الإطار نرى اتجاها مهما في السياسة الخارجية الصينية بشأن الدول الواقعة في النطاق الإقليمي مثل الملف الأفغاني، حيث الحدود المشتركة بين الصين وأفغانستان، فتؤيد الصين حق اختيارات الشعب الأفغاني في تحقيق مصيره، كذلك القضاء على التنظيمات الإرهابية التي يمكن أن تتسلل إلى داخل الأراضي الصينية، والسعي إلى إحلال السلام، كما كانت الصين مؤيدة لانسحاب القوات الأجنبية من أفغانستان والتي تأكد عدم فاعليتها بعد مرور 20 عاما على تواجدها هناك.. كذلك أبدت الصين استعدادها للقيام بدور فاعل في تحسين العلاقات بين أفغانستان وباكستان.

وفي هذا المقام، لا يمكن إغفال ما تعرضت له الصين من حملة عدائية كبرى من أمريكا في أعقاب ظهور وانتشار فيروس كورونا في أواخر عام 2019 في مقاطعة “ووهان” الصينية، في سعي أمريكي أن الصين هي المسؤولة عن تصدير الفيروس من خلال تخليقه معمليا، وهو ما نفته الصين نفيا قاطعا وردت عليه بكل حسم وقتها.. بل كانت الصين أول دولة قدمت اللقاح اللازم لمكافحة جائحة كورونا (كوفيد 19)، وأوفدت طواقم طبية إلى 45 دولة أفريقية، وعقدت 400 دورة تدريبية لمكافحة المرض لعشرات الآلاف من الأطباء الأفارقة ومعاونيهم.

لا شك أن دولة بحجم الصين، والمعروفة بحضارتها القديمة والعريقة، والتي زخرت بالعديد من المفكرين والفلاسفة والعلماء الذين قدموا إسهاماتهم في جميع المجالات وأوجه العلم والمعرفة قادرة، اليوم، على مجابهة كافة التحديات والمخاطر التي تظهر أمامها سواء على المستوى المحلي أو الخارجي، وهو ما يدفعها لتقييم مواقفها وتقويمها باستمرار وصولا إلى القرار السليم.. ومن المؤكد أن تلك السياسات هي التي تجعل من الصين قوة صلبة ولها ثقل خاص في ميزان القوى الدولية.

رابط مختصر
2024-05-25
أترك تعليقك
0 تعليق
*الاسم
*البريد الالكترونى
الحقول المطلوبة*

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

شروط التعليق : عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

ان كل ما يندرج ضمن تعليقات القرّاء لا يعبّر بأي شكل من الأشكال عن آراء اسرة العربي الأفريقي الالكترونية وهي تلزم بمضمونها كاتبها حصرياً.

حاتم عبدالقادر