شذرات الذهب في فلسفة الشاب جمال عبد الناصر.. بذور الثورة وتعانق غاياتها السياسية والاجتماعية (1)

آخر تحديث : الخميس 25 يناير 2024 - 1:51 مساءً
بقلم: د. رفعت سيد أحمد
بقلم: د. رفعت سيد أحمد

في ذكري ميلاد عبدالناصر(15 يناير 1918) ثمة زوايا عدة يستطيع (المؤرخ ) أن يقترب من ميلاد وموت هذا الزعيم الوطني الاستثنائي ..لكننا سنحاول هنا أن نقترب منه ومن تراثه الفكري والسياسي من منظور مختلف ..لكي نوسع من دائرة النظر والتحليل لهذا الارث الوطني العظيم الذي تركه عبدالناصر في ضمير وتاريخ أمته العربية .. بهذا المعني كثيرة هي الخطابات والوثائق الصادرة عن الزعيم القومي الراحل جمال عبد الناصر ..إلا أن وثيقة (فلسفة الثورة ) تعد الاقدم والاكثر شهرة وقيمة وذلك لعدة أسباب يأتي في مقدمتها أنها أول عمل فكري وثقافي يصدر عن قائد ثورة يوليو 1952 .. فهي صدرت عام 1954 وتأتي قيمتها أيضا في أنها إحتوت ولاول مرة عن رؤية قائد الثورة لقضايا الوطن والهوية ودوائر الانتماء وتأتي أهميتها ثالثا في أنها رسمت (الطريق )الذي علي الثورة أن تسير فيه لتحقيق (رسالتها ) ….إن كتابأو(وثيقة :فلسفة الثورة ) ورغم قلة عدد صفحاتها (قرابة ال60 صفحة من الحجم المتوسط ) إلا أنها كانت كانت ذات قيمة كبيرة في مسار ومصير ثورة عبدالناصر.

******** ولقد تعددت تاريخيا زويا التناول والدراسة والتحليل ل (فلسفة الثورة ) طيلة ال السبعين عاما الماضية منذ كتبها عبدالناصر (الشاب ) عام 1954 والذي كان يبلغ وقتها من العمر 36 عاما ( و قيل أن محمد حسنين هيكل هو من صاغها وعبدالناصر هو من ألقاها عليه بحكم الفهم المشترك و العلاقة الخاصة والمميزة التي ربطت بين عبدالناصر وهيكل وقتذاك ) .. ثمة شذرات من الذهب في هذة الوثيقة قليلة الصفحات (وثيقة فلسفة الثورة ) تركها أو لم يولها المؤرخين حقها الكافي من الايراد والذكر والتحليل .وذهبوا الي ماهو (كبير وإستراتيجي ) .وهي ( شذرات )نراها وكأنها كتبتت اليوم (2024) وتحمل عمقا وفهما تاريخيا قل أن نجده لدي زعماء عرب آخرين ..فلقد تضفر فيها (التاريخ ) ب(الواقع )ناظرا الي (المستقبل أو الطريق كما أسماه عبدالناصر في فلسفة الثورة)..فماذا عن تلك الشذرات الذهبية المجهولة في فلسفة الثورة ؟

********

ماذا تعني (الفلسفة ) لدي عبدالناصر؟

لم يخجل السياسي الشاب جمال عبدالناصر عندما يبدأ كتابه (فلسفة الثورة ) ورغم أنه كان معروفا بسعة الاطلاع و العلم وأنه كان نهما في القراءة والمعرفة ..إذ نجده يقول في السطور الاولي من شذرات فلسفته الذهبية (أنا أحس و أنا واقف حيالها- يقصد حيال كلمتي فلسفة الثورة – أني أمام عالم واسع ليس له حدود ، و أشعر في نفسي برهبة خفية تمنعني من أن أخوض في بحر ليس له قاع ، و لا أرى له على بعد ، من الشاطئ الذي أقف فيه شاطئاً آخر انتهى إليه.,

والحق أني أريد أن أتجنب كلمة فلسفة في هذا الذي سأقوله ثم أنا أظن أنه من الصعب علي أن أتحدث على فلسفة الثورة.. من الصعب لسببين:

أولهما:

إن الحديث عن فلسفة ثورة 23 يوليو يلزمه أساتذة يتعمقون في البحث عن جذورها الضاربة في أعماق تاريخ شعبنا.

وقصص كفاح الشعوب ليس فيها فجوة يملؤها الهباء وكذلك ليس فيها مفاجآت تقفز إلى الوجود دون مقدمات.

إن كفاح أي شعب ، جيلاً من بعد جيل ، بناء يرتفع حجر فوق حجر ..

وكما إن كل حجر في البناء يتخذ من الحجر الذي تحته قاعدة يرتكز عليها ، كذلك الأحداث في قصص كفاح الشعوب.

كل حدث منها هو نتيجة لحدث سبقه ، وهو في نفس الوقت مقدمة لحدث مازال في ضمير الغيب …

ولست أريد أن أدعي لنفسي مقعد أستاذ التاريخ….. ذلك أخر ما يجري به خيالي) * هذا التواضع والعمق في الوقت ذاته ينم عن شخصية تدرك قيمة نفسها وتعلم حدود معرفتها ولا تحاول أن تتجرأ علي العلم والتاريخ كما يفعل الهواة من (طغاة وحكام التاريخ الانساني والعربي ) والذين يتكلمون وكأنهم آلهة ..تعرف كل شيئ وفي كل وقت ..وهي أجهل وأغبي ما تكون ..عبدالناصر رغن علمه ومعرفته وثقافته الواسعة ..ينحث ويقترب من التاريخ وفلسفته بتواضع وحياء ..ولكنه تواضع العارفين وسنجده بعد سطور يؤكد ذلك عبر سرده وتناوله النقدي لتاريخ مصر المعاصر وبحث الشعب عن (الثورة الحقيقية ) !

*********

*يقول عبدالناصر في شذراته الذهبية المخبأة في ( فلسفة الثورة ) والتي قفز عليها المؤرخون دون تدقيق وتحري وفهم ..(لقد حاولت محاولة تلميذ مبتدئ ، في دراسة قصة كفاح شعبنا ، فأنا سوف أقول مثلاً أن ثورة 23 يوليو هي تحقيق للأمل الذي راود شعب مصر ، منذ بدأ في العصر الحديث يفكر في أن يكون حكمه بأيدي أبنائه ، وفي أن تكون له نفس الكلمة العليا في مصيره…

لقد قام بمحاولة لم تحقق له الأمل الذي تمناه ، يوم تزعم السيد عمر مكرم حركة تنصيب محمد علي والياً على مصر ، باسم شعبها …

وقام بمحاولة لم تحقق له الأمل الذي تمناه ، يوم حاول عرابي أن يطالب بالدستور… وقام بمحاولات متعددة ، لم تحقق له الأمل الذي تمناه في فترة الغليان الفكري التي عاشها بين الثورة العرابية و ثورة سنة1919.

وكانت هذه الثورة الأخيرة _ ثورة 1919 بزعامة سعد زغلول _ محاولة أخرى لم تحقق له الأمل الذي تمناه.

وليس صحيحاً أن ثورة 23 يوليو قامت بسبب النتائج التي أسفرت عنها حرب فلسطين ، وليس صحيحاً كذلك أنها قامت بسبب الأسلحة الفاسدة التي راح ضحيتها جنود و ضباط . وأبعد من ذلك عن الصحة ما يقال أن السبب كان أزمة انتخابات نادى ضباط الجيش. إنما الأمر في رأيي كان أبعد من هذا و أعمق أغوارا).

********************

البديات الأولي للثورة:

ثم يشحذ –عبدالناصر -ذاكرته ويتذكر البدايات الاولي لتكون نواة الثورة لديه بل لدي الشعب المصري كله .. فيقول (وأنا احاول بعد كل ما مر بي من أحداث, وبعد سنوات طويلة من بدء التفكير في الثورة, أن أعود بذاكرتي وأتعقب اليوم الأول, الذي اكتشفت فيه بذورها في نفسي ) ثم يعدد الايام والازمات التي حفرت طريق الثورة لديه ولدي رفاقه من الضباط الاحرار ويري أنها تمتد لعشرات السنين منذ ثورة عمر مكرم ضد الحملة الفرنسية مرورا بثورة عرابي وثورة 1919 ومظاهرات عودة الدستور وحرب النكبة في فلسطين وإنشاء تنظيم (الضباط الاحرار ) كل تلك المراحل من وجهة نظر عبدالناصر هي التي حفرت (طريق الثورة ) في نفسه وعقله.. ولنتأمل بعض كلماته وشذراته الذهبية التي لم يوردها المؤرخون في تأريخهم لكتاب فلسفة الثورةو ولعمق مشاعر عبدالناصر الملتهبة لتفجير الثورة وخاصة تجربته في حرب فلسطين فنجده يقول ((. إن هذا اليوم في حياتي-يقصد يوم ثورة 23 يوليو- أبعد من يوم 16 مايو سنة 1948 ذلك اليوم الذي كان بداية حياتي في حرب فلسطين.. وحين أحاول الآن ان أستعرض تفاصيل تجاربنا في فلسطين أجد شيئا غريبا.

فقد كنا نحارب في فلسطين, ولكن أحلامنا كلها في مصر, كان رصاصنا يتجه الى العدو الرابض أمامنا في خنادقه, ولكن قلوبنا كانت تحوم حول وطننا البعيد الذي تركناه للذئاب ترعاه. وفي فلسطين كانت خلايا الضباط الأحرار تدرس وتبحث وتجتمع في الخنادق والمراكز. في فلسطين جاءني صلاح سالم وزكريا محي الدين واخترقا الحصار الى الفالوجة, وجلسنا في الحصار لا نعرف له نتيجة ولا نهاية, كان حديثنا الشاغل وطننا الذي يتعين أن نحاول إنقاذه.

وفي فلسطين جلس بجواري مرة كمال الدين حسين وقال لي وهو ساهم الفكر شارد النظرات.

هل تعلم ماذا قال لي أحمد عبد العزيز قبل أن يموت ؟.. قلت…

ماذا قال …؟

قال كما ل الدين حسين وفي صوته نبرة عميقة وفي عينيه نظرة أعمق:

لقد قال لي : إسمع يا كمال , إن ميدان الجهاد الأكبر هو في مصر…

ولم التق في فلسطين بالأصدقاء الذين شاركوني في العمل من اجل مصر, وإنما التقيت ايضا بالأفكار التي أنارت أمامي السبيل).

وأنا اذكر أيام كنت أجلس في الخنادق وأسرح بذهني إلى مشاكلنا…ثم نجده يقول – وهو قول لم يعطيه المؤرخون حقه من التحليل والتأمل –

(كانت الفالوجة محاصرة ، وكان تركيز العدو عليها ضربا بالمدفع و الطيران تركيزا هائلاً مروعاً.

وكثيرا ما قلت لنفسي: (ها نحن هنا في هذه الجحور محاصرين ، لقد غرر بنا ، دفعنا إلى معركة لم نعد لها ، ولقد لعبت بأقدارنا مطامع ومؤامرات و شهوات ، و تركنا هنا تحت النيران بغير السلاح ).وحين كنت أصل إلى هذا الحد من تفكيري كنت أجد خواطري تقفز فجأة عبر ميدان القتال ، وعبر الحدود ، إلى مصر ، وأقول لنفسي:

هذا هو وطننا هناك ، انه ((فالوجة)) أخرى على نطاق كبير …. إن الذي يحدث لنا هنا صورة من الذي يحث هناك…. صورة مصغرة… وطننا هو الآخر حاصرته المشاكل و الأعداء ، وغرر به ودفع إلى معركة لم يعد لها ، ولعبت بأقدار مطامع و مؤامرات وشهوات ، وترك هناك تحت النيران بغير سلاح) هنا تبلورت فكرة (الثورة ) وتجدد لهيبها في قلب عبدالناصر ورفاقه الكبار الذين فجروا لاحقا ثورة 23 يوليو 1952

***********

ثورتان ..لا ثورة واحدة:

وأنا الآن أستطيع أن أقول إننا نعيش في ثورتين وليس في ثورة واحدة * وبعد تحليل عميق للثورة وجذورها وبداياتها وحتمية قيام الجيش بها ..نجد عبدالناصر يأخذنا الي شذرات آخري في فلسفته وطريقه للتغير ..وهو طريق تتعانق فيه الثورات وتلتقي ..لكي تنجح وهنا نجده يقول (. لكل شعب من شعوب الأرض ثورتان:

ثورة سياسية : يسترد بها حقه في حكم نفسه بنفسه من يد طاغية فرض عليها ، أو من جيش معتد أقام في أرضه دون رضاه.

ثورة اجتماعية : تتصارع فيها طبقاته ثم يستقر الأمر فيها على ما يحقق العدالة لأبناء الوطن الواحد.

لقد سبقتنا على طريق التقدم البشري شعوب مرت بالثورتين ولكنها لم تعشهما معاً . وإنما فصل بين الواحد و الثانية مئات من السنين ، أما فان التجربة الهائلة التي امتحن بها شعبنا هي أن تعيش الثورتان معاً في وقت واحد .

وهذه التجربة الهائلة مبعثاً أن لكل من الثورتين ظروفا مختلفة تتنافر تنافراً عجيباً ، وتتصادم تصادماً مروعاً.

وان الثورة السياسية تتطلب لنجاحها وحدة جميع عناصر الأمة و ترابطها وتساندها ونكرانها لذاتها في سبيل الوطن كله.

الثورة الاجتماعية ، من أول مظاهرها ، نزلزل القيم وتخلخل العقائد ، وتصارع المواطنين مع أنفسهم أفراد وطبقات ، وتحكم الفساد و الشك و الكراهية .. و الأنانية).

ثم نجده يقول في السطور التي أهملها المؤرخون -أو لم يعطوها حقها كاملا- في البحث عن فلسفة ثورة عبدالناصر : ((بين شقي الرحى هذين ، قدر لنا أن نعيش اليوم في ثورتين:

ثورة تحتم علينا أن نتحد ، ونتحاب ، ونتفانى في الهدف ، وثورة تفرض علينا – برغم إرادتنا – أن نتفرق ، وتســـود البغضاء ولا يفكر كل منا إلا في نفسه.

وبين شقي الرحى هذين – مثلاً – ضاعت ثورة 1919 ولم تستطع أن تحقق النتائج التي كان يجب أن تحققها.

الصفوف التي تراصت في سنة 1919 تواجه الطغيان ، لم تلبث إلا قليلا حتى شغلها الصراع فيما بينها أفراد و طبقات . . وكانت النتيجة فشلاً كبيراً ، فقد زاد الطغيان بعدها تحكماً فينا ، سواء بواسطة قوات الاحتلال السافرة ، أو بصنائع الاحتلال المقنعة التي كان يتزعمها في ذلك الوقت السلطان فؤاد وبعده ابنه فاروق ، ولم يحصد الشعب إلا الشكوك في نفسه والكراهية و البغضاء والأحقاد فيما بين أفراده و طبقاته.

وشحب الأمل الذي كان ينتظر أن تحققه ثورة .1919

ولقد قلت لقد شحب الأمل ولم أقل تلاشى ، ذلك لآن قوى المقاومة الطبيعية التي تدفعها الآمال الكبيرة التي تراود شعبنا ، كانت لا تزال تعمل عملها وتستعد لمحاولة جديدة . وكان ذلك هو الحال الذي ساد بعد ثورة 1919 والذي فرض على الجيش أن يكون وحده القوة القادرة على العمل.

كان الموقف يتطلب أن تقوم قوة يقرب ما بين أفرادها إطار واحد ، يبعد عنهم إلى حد ما صراع الأفراد و الطبقات ، وأن تكون هذه القوة من صميم الشعب ، وان يكون في استطاعة أفرادها أن يثق بعضهم ببعض ، وأن يكون في يدهم من عناصر القوة المادية ما يكفل لهم عملاً شريفاً حاسماً ، ولم تكن هذه الشروط تنطبق إلا على الجيش.

وهكذا لم يكن الجيش – كما قلت – هو الذي حدد دوره في الحوادث ، وإنما العكس كان أقرب إلى الصحة ، وكانت الحوادث و تطوراتها هي التي حددت للجيش دوره في الصراع الكبير لتحرير الوطن) * وفي أسلوب لغوي وفلسفي جميل وعميق يخلص عبدالناصر في فلسفته عن اللحظات الأولى للثورة .…

(كان لابد أن نسير في طريق الثورتين معاً .

ويوم سرنا في طريق الثورة السياسية فخلعنا فاروقا عن عرشه سرنا خطوة مماثلة في طريق الثورة الاجتماعية فقرننا تحديد الملكية . ومازلت أعتقد حتى اليوم انه ينبغي أن تظل ثورة 23 يوليو محتفظة بقدرتها على الحركة السريعة و المبادأة ، لكي تستطيع أن تحقق معجزة السير في ثورتين في وقت واحد ، ومهما يبدو في بعض الأحيان من التناقض في تصرفاتنا).

*****************

تلك بعض من (شذرات الذهب ) في فلسفة ثورة الشاب إبن ال36 عاما ..جمال عبدالناصر ..شذرات ربما ذكر بعضها (المؤرخون )للثورة ..لكن ظني – وليس كل الظن إثم- أنهم لم يعطوها حقها كاملا .. وبقيت مدفونة عبر السبعين عاما الماضية في بطون كتب التاريخ ..وذكروا فقط العناوين الكبيرة والتي يتصورها البعض من مؤرخينا هي المهمة ..رغم أن (التاريخ ) أثبت منذ وضع عبدالناصر فلسفته عام 1954 أن الخفي والمدفون من كنوز وشذرات الذهب (الشخصية والانسانية ) في (فلسفة الثورة )..ومن أحاديث وخطب ووثائق عبدالناصر الاخري ؛لايقل أهمية إن لم يكون أكثر فائدة وعمقا!

ولحديث الشذرات بقية.

*كاتب المقال: كاتب صحفي وباحث ومدير مركز يافا للدراسات والبحوث.

رابط مختصر
2024-01-25
أترك تعليقك
0 تعليق
*الاسم
*البريد الالكترونى
الحقول المطلوبة*

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

شروط التعليق : عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

ان كل ما يندرج ضمن تعليقات القرّاء لا يعبّر بأي شكل من الأشكال عن آراء اسرة العربي الأفريقي الالكترونية وهي تلزم بمضمونها كاتبها حصرياً.

حاتم عبدالقادر