في تطور يعد الأبرز منذ اندلاع الحرب الأخيرة على قطاع غزة في أكتوبر 2023، نجحت الوساطة المصرية، بدعم قطري وأمريكي، في التوصل إلى اتفاق مبدئي بين إسرائيل وحركة حماس، يشمل تبادلا للأسرى وهدنة إنسانية مؤقتة.
في عاصمة القرار العربي كتبت سطور الجولة الأخيرة من المفاوضات، تلك الجولة التي أنجزت مساء أمس في شرم الشيخ، بعد صراع طويل من عدة جوالات شاقة ومعقدة تراوحت بين عواصم الوسطاء الثلاثة القاهرة والدوحة وواشنطن وانتهت في القاهرة.
صعوبة المفاوضات الأخيرة أطالت أمد الحرب لمدة عامين من الإبادة والحصار الإسرائيلي لأهل غزة، لتذكرنا بتاريخ بني إسرائيل في الجدال والتفاوض ونقض العهود، يوجد تاريخ طويل من المفاوضات المتقطعة بين إسرائيل وحماس، والتي طالما تراوحت بين النجاح المؤقت، والفشل التام، أو التعثر في التنفيذ ونقض المعاهدات من قبل إسرائيل.
مفاوضات الضرورة لا الاعتراف
منذ سيطرة حركة حماس على قطاع غزة في عام 2007، لم تعترف إسرائيل بها رسميًا كمفاوض مباشر. ولكن الوقائع السياسية والأمنية فرضت شكلا من أشكال التواصل غير المباشر، غالبا عبر وسطاء أبرزهم مصر، وقطر، وأحيانًا الأمم المتحدة، بالإضافة إلى الولايات المتحدة الأمريكية التي لطالما اعتبرها الكثيرون شريك لإسرائيل أكثر منها وسيط، وكانت المفاوضات دائما تأتي في إطار حل أزمات آنية مثل تبادل الأسرى أو التهدئة المؤقتة بعد التصعيدات العسكرية.
من صفقة شاليط إلى سلسلة عقيمة من المفاوضات
من أبرز المحطات التي شكلت علامة فارقة في تاريخ المفاوضات، كانت صفقة تبادل الأسرى عام 2011، والتي عرفت حينها إعلاميا بـ”صفقة شاليط”.
وبعد مفاوضات استمرت خمس سنوات بوساطة مصرية ألمانية، تم التوصل إلى اتفاق أفرج بموجبه عن الجندي الإسرائيلي “جلعاد شاليط” مقابل أكثر من ألف أسير فلسطيني، من بينهم قيادات بارزة من فصائل المقاومة أبرزهم “يحيي السنوار”.
نجاح تلك الصفقة لم يخفِ أن المفاوضات مرت بمراحل طويلة من الجمود، تعرقلت خلالها الجهود بسبب الخلافات حول أسماء الأسرى، أو اشتراطات إسرائيل بعدم إطلاق سراح من تصفهم بـ”ذوي الأيادي الملطخة بالدماء”. رغم ذلك، ظلت هذه الصفقة نموذجًا حيًا لما يمكن أن تحققه الوساطة الفاعلة والإرادة السياسية حتى في ظل العداء المفتوح.
بعيدًا عن تبادل الأسرى، شهدت السنوات الأخيرة عدة محاولات للتوصل إلى اتفاقات لوقف إطلاق النار أو تهدئة طويلة الأمد، خاصة بعد كل جولة تصعيد عسكري على قطاع غزة. ففي عام 2008، رعت القاهرة تهدئة بين الجانبين استمرت عدة أشهر لكنها سرعان ما انهارت مع تبادل الاتهامات بخرقها. وتكررت المحاولات في أعوام 2012، 2014، و2021، بعد جولات دامية من الحرب، حيث كانت التفاهمات المؤقتة تبرم لتخفيف التوتر دون التوصل إلى اتفاق دائم.
غالبًا ما كانت هذه التهدئات تتم دون إعلان رسمي، وبصيغ لفظية فضفاضة، ما جعلها عرضة للانهيار عند أول مواجهة ميدانية، وسط غياب آلية الرقابة أو الضمانات الدولية الواضحة.
مفاوضات حرب الإبادة والحصار
اندلاع الحرب في أكتوبر 2023، عقب عملية عسكرية مفاجئة نفذتها حماس، أطلق جولة جديدة من الصراع الأكثر دموية منذ عقود. ومنذ الأيام الأولى للقتال، بدأت محاولات دولية حثيثة للوصول إلى تهدئة، لا سيما مع احتجاز حماس عددًا كبيرًا من الإسرائيليين كرهائن، تزامن ذلك مع احتدام العمليات العسكرية في غزة، وتصاعد الضغط الدولي بسبب الكارثة الإنسانية هناك.
ومع تعثر مفاوضات وقف إطلاق النار لأشهر، خاصة بعد جولات غير مكتملة في الدوحة والقاهرة بين أواخر 2023 ومنتصف 2025، بدا أن الطرفين يدوران في حلقة مفرغة؛ حماس تطالب بوقف دائم للحرب وانسحاب كامل للقوات الإسرائيلية، بينما تصر تل أبيب على استعادة الرهائن أولًا، وتصف شروط حماس بـ”الخيالية”.
نجاح القاهرة الأخير.. اختراق أم بداية معركة تفاوضية أطول؟
في هذا السياق، ينظر إلى الاتفاق الأخير الذي وقع أمس في القاهرة على أنه اختراق مهم، وإن كان محدودًا؛ إذ جرى التوافق على تنفيذ المرحلة الأولى من خطة أوسع وضعها الرئيس الأمريكي”دونالد ترامب”، تقضي بهدنة إنسانية لدخول المساعدات إلى غزة مقابل تسليم الأسرى، وتشمل مستقبل إدارة غزة بعد الحرب ومصير حماس العسكري، وقد سلمت الأطراف القوائم الاسمية المطلوبة لتبادل الأسرى، ما يعد مؤشرًا إيجابيًا على جدية تنفيذ المرحلة الأولى.
تبقى المرحلة الثانية مجهولة المصير خاصة مع وجود تحفظات عليها من قبل الطرفين، مما يبقى الاتفاق في طبيعته جزئيًا ومشروطًا، حيث لم يتم بعد التوصل إلى صيغة نهائية تضمن وقفًا دائمًا لإطلاق النار، أو اتفاقًا شاملًا بشأن مستقبل غزة بعد الحرب، أو وضع حماس السياسي والعسكري. وقد أشارت مصادر مطلعة إلى أن الأيام المقبلة ستكون حاسمة في اختبار مدى التزام الطرفين بما تم الاتفاق عليه.
هل تغير المفاوضات الأخيرة قواعد اللعبة؟
في ظل النمط المتكرر من المفاوضات المتقطعة، يعتبر كثير من المراقبين أن ما يميز الجولة الحالية هو زخمها السياسي الدولي، حيث ترتبط بخطة ترامب الذي وافق عليها الطرفين، ورحب بها جميع الوسطاء، بعد مشاورات مع عدد من البلدان العربية بالإضافة إلى تركيا وباكستان.
وضعت مفاوضات القاهرة المراحل الزمنية لتنفيذ الخطة الترامبية على أرض الواقع، ولكن التحدي الأكبر يبقى في إدارة المرحلة التالية، هل تتحول التهدئة إلى هدنة دائمة؟ وهل يمكن استثمار هذا الاختراق في إطلاق عملية سياسية أوسع تشمل إعادة إعمار غزة وترتيب الوضع الأمني والإداري فيها؟
تاريخ المفاوضات بين حماس وإسرائيل يظهر بوضوح أن الضرورة الأمنية والضغط الدولي هما العاملان الأساسيان اللذان يدفعان إسرائيل للجلوس على طاولة المفاوضات، وبينما حفلت هذه التجربة بمزيج من النجاحات والفشل، فإن الفرصة الراهنة قد تشكل منعطفًا حقيقيًا إن تم البناء عليها بجدية، بعيدًا عن الحسابات الضيقة والمواقف الصفرية.
فهل تنجح القاهرة هذه المرة في رعاية اتفاق يتجاوز حد التهدئة المؤقتة؟ أم تعود عجلة الحرب لتدور من جديد؟