بعد إعلان حركة حماس موافقتها المشروطة على الخطة الأمريكية لوقف الحرب في غزة، تحوّل المشهد الإقليمي إلى ما يشبه لحظة اختبار لمحور المقاومة بأكمله، وعلى رأسه حزب الله في لبنان.
التطور الفلسطيني أثار تساؤلات جدية في بيروت، هل يمكن أن يسلك الحزب الطريق ذاته ويقبل بتسوية مشروطة مع إسرائيل تحت ضغوط داخلية وخارجية؟ أم أن التجربة اللبنانية مختلفة جذريًا عن تجربة حماس في غزة، حيث تختلط الحسابات الداخلية بالارتباطات الإقليمية المعقدة؟
بدا قبول حماس خطوة اضطرارية، تحت وطأة الانهاك العسكري والضغط الدولي، أكثر منه قرارًا استراتيجيًا نابعًا من موقع تفاوضي متكافئ. ولكن وفق مراقبين لبنانيين وإقليميين، التجربة اللبنانية ليست سهلة، لأن التحدي الأبرز اليوم ليس التهدئة بحد ذاتها، بل مطلب تسليم السلاح الذي ترفعه الحكومة اللبنانية والأطراف الدولية في وجه حزب الله.
فالمشهد اللبناني اليوم يكشف عن معركة من نوع آخر ليست عسكرية على الحدود، بل سياسية داخل بيروت، عنوانها الرئيسي هو سلاح حزب الله ومصير “المعادلة الثلاثية” التي شكّلت جوهر التوازن اللبناني لعقود: (الجيش، الشعب، المقاومة).
القبول المشروط من قبل حماس بالخطة الترامبية، كما أعلنته قيادات الحركة، جاء بدافع الرغبة في وقف نزيف الدم، وفتح مسار إنساني واقتصادي يعيد بعض الحياة إلى القطاع المنهك. لكن تلك الموافقة لم تكن بلا تحفظات، إذ رفضت الحركة البنود التي تتحدث عن نزع سلاحها أو تحويل غزة إلى منطقة منزوعة السلاح، مؤكدة أن (حق المقاومة لا يُساوم عليه).
في المقابل يرى خبراء لبنانيون أن أي سيناريو يشبه ما حدث مع حماس يحتاج إلى موافقة إيرانية ضمنية وضمانات دولية غير قابلة للنكث، وهو ما يبدو صعب المنال في الوقت الراهن، في ظل تصاعد التوتر في الجنوب ومخاوف الانزلاق إلى مواجهة أوسع.
لا يبدو أن حزب الله سيعيد تجربة حماس حرفيًا، وهو ما أكدته تصريحات الأمين العام لحزب الله، “نعيم قاسم” الذي حذّر فيها من أن الخطة الأمريكية لوقف الحرب في غزة مليئة بالمخاطر، واتهم إسرائيل بأنها تسعى إلى تحقيق أهدافها من خلال السياسة بعدما فشلت عبر الحرب، وأضاف أنه (لن يتدخل في تفاصيل الخطة)، لكنه شدد على رفض أي مشروع يضرّ بالمقاومة أو يشرّع التنازل عن الأراضي.
وبالتالي المشهد اللبناني، بكل تعقيداته الطائفية والسياسية، لا يسمح بتكرار سيناريو غزة، لا في الشكل ولا في المضمون. فحزب الله يدرك أنه ليس في موقع حماس ولا في ظرفها، لكنه أيضًا يدرك أن الرياح الإقليمية تغيرت بسرعة، والتوازنات الجديدة في المنطقة أخلت بميزان المحور، والهدنة بين الحزب وإسرائيل خير دليل.
فتجربة حزب الله مع الهدنة الإسرائيلية لم تكتمل حتى الآن، فقد اتجه حزب الله منذ أشهر عديدة نحو تهدئة مرحلية وتسوية ميدانية مؤقتة مع إسرائيل، جاءت نتيجة تصاعد الضغوط الدولية على لبنان لتجنب مواجهة شاملة مع إسرائيل، فكانت التهدئة تشمل وقف إطلاق النار وتبادل الأسرى، وانسحابًا إسرائيلياً، مقابل التزام الحزب بوقف التصعيد وتسليم سلاحه.
بقيت هذه التهدئة إجرائية ومؤقتة، خاصة في ظل الاختراقات الإسرائيلية اليومية مع تمسك الحزب بسلاحه، إذ توقف القتال الميداني بين إسرائيل وحزب الله، بينما انتقلت المفاوضات حول الهيمنة على سلاح الحزب، ولكن اليوم بعد موافقة حماس على خطة ترامب عاد اللبنانيون يتسائلون هل سيسلم حزب الله سلاحه ويخضع للشروط الإسرائيلية؟
الفارق الأساسي بين التجربتين يعود إلى طبيعة البيئة السياسية والعسكرية لكل من حماس وحزب الله.
في غزة، رغم أن الحركة تخضع لحصار خانق منذ أكثر من 15 عامًا، وحرب طاحنة منذ عامين، لكنها تتحرك في إطارين متوازيين (سياسيًا وعسكريًا) فحماس تمتلك قرارها في حدود غزة فهي تمثل الحكومة صاحبة القرار الفعلي وتمثل المقاومة صاحبة التضحيات والمسؤولة عن الحرب والدماء أمام شعب يرزح تحت الدمار، وبالتالي التسوية المؤقتة تُعد مكسبًا تكتيكيًا للحفاظ على الوجود والشرعية.
أما في لبنان، فحزب الله رغم أنه يحظى بدعم إقليمي مباشر من إيران، إلا أنه يتحرك ضمن بيئة أكثر انفتاحًا عسكرياً وأقل سياسياً، فالحكومة اللبنانية الحالية أخذت على عاتقها محاصرة الحزب داخلياً بالورقة الأمريكية الإسرائيلية.
فقد أقرت الحكومة اللبنانية في سبتمبر الماضي خطة لنزع سلاح الحزب ضمن استراتيجيات فرض سيطرة الدولة على الأسلحة في مختلف المناطق، مع خطوات تدريجية تبدأ من الجنوب وحتى بيروت، وهو الأمر الذي أثار مخاوف كثير من اللبنانيين من عودة شبح الحرب الأهلية لأن أي قرار بشأن سلاح المقاومة له انعكاسات داخلية كبيرة، وقد يفتح الباب لصراع سياسي داخلي وتهديد للسلم الأهلي، أو ربما تمرد فئات من الحاضنة الشعبية إذا ما شعروا بأنه تنازل مفرط.لكن حزب الله ووزراء متحالفون معه انسحبوا من جلسة التصويت على الخطة، معبّرين عن رفضهم لمفهوم (نزع السلاح القسري) أو ما يرونه سياقًا لشرعنة توجيه خارجي لقرارات الدولة.
الأمر الذي يجعل قرار الحزب مقيد بمواجهات الداخل، بخلاف حماس التي درست خطة ترامب واتخذت قرارها بمفردها. بالإضافة إلى أن حزب الله جزء من شبكة إقليمية متكاملة تُعرف بـمحور المقاومة، وقراراته الاستراتيجية غالبًا تُتخذ ضمن تنسيق مع طهران، وليس بمعزل عنها، وهذا الارتباط يضيف طبقة جديدة من التعقيد إلى أي مسار تفاوضي محتمل.
التجربتان: حماس في غزة، وحزب الله في لبنان تتقاطعان في مفهوم المقاومة، لكن يختلفان تمامًا في البنية السياسية، العلاقة بالدولة، المدخلات الإقليمية، وعمق الضغوط الميدانية.
بين منطق المقاومة ومنطق الدولة، يحاول الحزب أن يحافظ على شعرة توازن دقيقة؛ فلا يُظهر ليونة تُفهم ضعفًا، ولا تصلبًا يُكلفه عزلة دولية أو تصعيدًا عسكريًا مكلفًا. وحتى ذلك الحين، ستظل كل مبادرة لوقف النار أو تسوية جزئية تُقاس بمعيار واحد لدى الحزب: هل تضمن بقاء سلاح المقاومة أم تُمهّد لنزعه؟
فالهدنة السابقة، بدل أن تفتح باب الاستقرار، مهّدت لبروز أزمة جديدة داخلية، استعوضت المواجهة مع إسرائيل بمواجهة داخلية بين الحزب والجيش صنعتها الحكومة اللبنانية بتكليف ملف نزع سلاح حزب الله إلى الجيش اللبناني، تأكيدًا لمبدأ “حصرية السلاح بيد الجيش اللبناني”.
الخطوة التي وُصفت من قبل الحزب بأنها تحدٍ مباشر لمعادلة المقاومة، و”محاولة لاسترضاء الخارج”، في إشارة إلى الدعم الأميركي المعلن للخطة، والذي بلغ 230 مليون دولار كمساعدات أمنية لتعزيز قدرات الجيش.
في المقابل الدوائر السياسية اللبنانية الداعمة لقرار واشنطن ترى فيه فرصتها التاريخية لتحويل الهدنة الميدانية إلى فرصة سياسية لإضعاف نفوذ حزب الله تدريجيًا، عبر مقاربة “نزع السلاح مقابل الاستقرار الاقتصادي”، وهو طرح يجد بعض الصدى لدى أطراف لبنانية ترى في السلاح عقبة أمام الإصلاح والإنقاذ المالي.
بحسب مراقبين، هناك ثلاثة مسارات محتملة لتطور الأزمة أكثرها تداولاً التهدئة المشروطة بحيث يقبل الحزب بتخفيض انتشاره في الجنوب أو بتسليم بعض المواقع الحساسة إلى الجيش، مقابل ضمانات بعدم المساس ببنيته العسكرية.
أو الاستمرار في مواجهة سياسية باردة تزامنًا مع تواصل الحكومة الضغط عبر المسار القانوني والدولي، دون قدرة فعلية على التنفيذ الميداني، مما يخلق حالة من الشلل السياسي.
وأخيراً يبقى السيناريو الأسوء مطروحاً وهو التصعيد الداخلي وهو السيناريو الأخطر بالنسبة للبنانيين، في حال أصرّ الخارج على ربط المساعدات الدولية للبنان بملف نزع السلاح، ما قد يدفع الحزب إلى “إعادة التموضع” الميداني كما فعل بعد 2006.
وفي انتظار الإجابة على أيهم الأرجح، يبقى لبنان ساحة مفتوحة على كل الاحتمالات بين من يرى في التهدئة بداية انفراج، ومن يراها مجرد هدنة في حرب لم تنته بعد.
فالهدنة مع إسرائيل أوقفت الرصاص، لكنها فتحت بابًا جديدًا للجدل حول من يحتكر قرار الحرب والسلم في لبنان، وحيث لم يُعَدّ تعريف العلاقة بين المقاومة والدولة في صيغة وطنية شاملة، فإن بيروت قد تجد نفسها قريبًا أمام معركة داخلية صامتة لا تقل خطورة عن حرب الجنوب.










