تجليات الأنثى الحرة.. قراءة فنية وجودية في «إله سريالي”

منذ ساعة واحدةآخر تحديث :
تجليات الأنثى الحرة.. قراءة فنية وجودية في «إله سريالي”
آمال بوحرب

قراءة نقدية في قصيدة الشاعرة سليمى السرايري “إله سريالي”

بقلم: د.آمال بوحرب

يتشكّل الأدب النسوي في تونس بوصفه مساحة اشتغال حرّ على الذات واللغة والوجود مساحة تبتكر فيها الكاتبة حضورها عبر إزاحة الصور النمطية وإشعال الحقول المعرفية بروح امرأة تعيد التفكير في العالم.

منذ النصف الثاني من القرن العشرين برزت كاتبات تونسيات عبر نصوص قصصية وشعرية وروائية حملت سؤال الحرية وصاغت الأنوثة بوصفها مشروعًا مفتوحًا يتفاعل مع التاريخ والذاكرة والجسد والرغبة وبهذه الطاقة تتقدم القصيدة النسوية التونسية اليوم داخل مشهد أدبي يتحرك وفق منطق التجريب والاختراق وتأسيس معنى جديد للكتابة.

ضمن هذا السياق تتجلّى قصيدة سليمى السرايري «إله سريالي» باعتبارها تجربة تتقاطع مع الوجودية النسوية كما بلورتها سيمون دي بوفوار في «الجنس الآخر» ومع مفهوم الحرية والاختيار كما يؤسسه جان بول سارتر في «الوجود والعدم» .

الشاعرة تبني فضاءً شعريًا يشبه مسرحًا داخليًا تُعاد فيه صياغة العالم من خلال فعل الرغبة نفسها ويتحوّل فيه الجسد من هيئة مرئية إلى قوة خالقة ومن أثر صامت إلى مشروع حرّ يصوغ ذاته.

تمد الشاعرة جسدها كوعد فجر وتطلق حواسها في هذيان يشرّع أبواب الوجود. هذا الهذيان ليس انفلاتًا عاطفيًا بل فعلًا وجوديًا خالصًا. الجسد يبني حدوده عبر الرغبة التي يختارها ويمنح ذاته سلطة التشكيل ،تمامًا كما ترى دي بوفوار أنّ المرأة تصير امرأة عبر مشروعها الحرّ وتصورها رهن الإرادة والخلق وكما يؤكد سارتر أنّ الوجود يتحقق عبر الفعل فتتجلى الحرية داخل كل حركة تنحت العالم من جديد.

عند اللحظة التي «تمتد فيها الأصابع الثائرة خارج اللوحة» تتجسد ذروة التمرّد. الأنثى تخرج من إطارها الرمزي كما تخرج من التاريخ الذي رسم ملامحهاكحلم تعُد موناليزا صامتة مبتسمة في هيئة أبدية ،موناليزا أخرى تتخطى الإطار وتعيد رسم نفسها بعين ترى وتخلق والحركة هنا فعل فلسفي ينقض الجوهر الراكد ويدفع الذات نحو مشروع يتجدد باستمرار.

ثم تتوالى التحولات: فراشة زنبقة براءة ساحرة وثنية. ليس التحوّل زخرفًا شعريًا بل تطبيقًا مباشرًا لفلسفة دي بوفوار. الأنوثة مشروع في حالة صيرورة تتغيّر صوره بتغيّر الوعي ويتعمّق مع كل فعل تتخذه المرأة لتصوغ طريقها أمّا عند سارتر فالتحوّل علامة القلق الإيجابي القلق الذي يفتح الوجود على الحرية وينقله من كونه معطًى إلى كونه اختيارًا.

يظهر «المعشوق الزجاجي» بوصفه صورة للرجل كما ترسمه الوجودية النسوية كيانًا يضع نفسه مركزًا ويراقب من خلف شفافيته. غير أن الشاعرة تعيد تشكيله من «كرتون ملوّن» كان يومًا علبة فقدت محتواها والتكوين فعل فلسفي خالص والآخر يتخذ قيمته من نظرة الذات لا العكس. بهذا الفعل تنقل الشاعرة العلاقة من هيمنة رمزية إلى خلق حرّ ومن مركزية الرجل إلى توازن جديد تصوغ فيه الأنثى حدود العالم التي ترغب فيها.

تولد «الموناليزا الجديدة» من اللون الذي تخلقه الشاعرة وتذوب بعد ذلك في نقطة فراغ مشتركة في انصهار يتجاوز الثنائية التقليدية. الفراغ هنا مجال إمكان وفضاء يتسع للحرية أشبه بما يصفه سارتر حين يجعل العلاقة بين الذاتين ساحة صراع وتحرير متبادل. غير أنّ الشاعرة تمنح هذا الفراغ بعدًا شعريًا فيصبح وعدًا خلاقًا إمكانية لقاء يتجدد بجمالية تتجاوز الزمان والمكان.

ويتقاطع هذا التوجّه مع شعريات أدونيس حيث يتحوّل الجسد إلى لغة واللون إلى أفق والعشق إلى تجربة تعيد صياغة الذات غير أنّ سليمى تجعل الأنثى حجر الزاوية وهي التي تمنح المعنى وهي التي تبتكر اللقاء وهي التي تحول الحب إلى طريق وجودي كامل.

وفي المقاطع الأخيرة من القصيدة تصبح رحلة «إله سريالي» رحلة إلى ما وراء الحبّ التقليدي نحو عشق يتخذ بعدًا وجوديًا. «أخلق لونًا» «أصير موناليزا أخرى» «أعدك بالوصول من الجهة المقابلة» هذه العبارات تحوّل الوجود إلى خلق دائم وتفتح العشق على أفق مطلق. أفق يشبه الحرية كما رآها سارتر. مشروعًا يتحقق داخل كل اختيار ويتجدد مع كل قفزة نحو المجهول.

تتشكّل القصيدة في النهاية كمانيفستو أنثوي وجودي الأنثى تصوغ وجودها عبر الرغبة وتمتلك العالم عبر اللون وتعيد تكوين الآخر عبر نظرتها. الأنثى حضور يصنع معنى ذاته وحرية تُعلن نفسها من داخل الخيال السريالي. كل صورة تخلقها الشاعرة شهادة على أنّ الجوهر يولد من الفعل وأن الحب مساحة تُبتكر لا تُمنح وأن الوجود الأنثوي يتخذ أعمق أشكاله حين يتحول إلى خلق شعري حرّ.

بهذايصبح نص «إله سريالي» كشفًا لأنثى تُعلن العالم وتعيد اختراعه.

 

 

 

 

الشاعرة التونسية سليمى السرايري

———————-
إلهٌ سرياليّ
تمدد كخيوط فجر في وجه الصمت
كموعد يتهاوى
كلما أينعت حواسي بالهذيان
ها أنا أتهاطل على بقايا العبير
فراشة َ عاشقة ً للرحيق
حيث يرتعش اللون على رفات الوتر
متفاوتَ الزرقة
متموّجَ البياض

كان وهج اللمعان صادماً
حين امتدت من الإطار أصابعُ
ثائرةًً على جمود اللوحة…
شاخصةً كمرآة تسربت منها طلاسم السحرة
أستنشق رائحة بخور أعلن تمرّدَه في الأرجاء
وأجلس في شغف الانتظار
مع غائب كلما طالع خارطتي… تاه عني

الآن، لي رغبة البكاء في يتمي
أنا أغنية من نزْف الضياع
لي شيء يشبه ستارة أعيتها لعبة الريح
حيث طاعة التسبيح في محراب حبيبي

نصف قمر يباغتني عند احتضار الضوء
حتماً ستعبث الساعة بموعدنا
حتماً سيتوقف الوقت عند اللقاء
كل صمتٍ
كل سرابٍ
أجيء زَنبقة َ عابقة َ بالورد
مصوّحة باللون
أجيء، براءة بلّلت عرائسها ثم رقصت وحدها
هناك… في طرف الطفولة.
ها أنا أخون كل “بروفــيلاتي”
أسترق نظرات إلى صوتك
أحتضن لهفتي، وأغرق في مشهد لعناقٍ خياليّ

أكوّنك رجلاً من كرتون ملون
كان يوماً علبة فاخرةً ضاع محتواها في غمرة نسيان
لن يعود ذلك الشارع عابساً حين نلتقي
الشمس حاضرة تتقن تركيبة الالوان

هناك أفق …
هناك تشكيلاتٌ غرائبية تكبر
بيوتٌ تطير نحو السماء
غزلانٌ بيضاءُ ترعى حشائش السحاب
أيقوناتٌ تلبس أزرارها
هذياناتٌ أخرى تنتمي إلى مكعبات وتجريد
و “بيكاسو” يستلذّ ايقاعات فرشاة عاشقة

ما زال الموعد يرتب هندامه للقائنا
أكاد ألحق نبضه ذاك المتسارع
مثلي تماماً،
حين أخلــُقُ لوناً…
وأختلس نظرة على امرأةٍ قابعة في لوحة آخر الرِّواق
أصير “موناليزا” جديدة لحبيب زجاجيٍّ
يرسم ضفائري على الماء
فتفيض هالاتٍ وقصائد.

غريب أنت أيها الزجاجيّ
حين يهوي المساء
وتجيء عذراواتُ الليل بأغاني الدهشة
تتجلى شعاعاً “كمسيح”
على تراتيل نشيد “فرجيني” لصبايا
بين أصابعهن كتاب العاشقين المقدس

هناك تبدو كإله “آمون”
توزّع بركاتــِك على البؤساء
تقيهم رياح العواصف الراكضة نحو أكواخهم
ثم تعتكف قلعتــَـك داخل الإطار

أكوابك مترعةٌ،
ألوانُك تسكرُ،
وشهوتك، أبديّةُ الجنون…

هل لي الآن، أن أغنّي مثل ساحرة في وثنية قديمة؟
هل لي أن أعود من آخر الأسطورة،
تسبـِقني النشوة قبل الاحتراق؟

ها أنت هنا قبل الموعد بعمرٍ ودمعتين،
تفتح صدرك حدّ الامتلاء
تستعجل الخطى
تُهرَع نحوك آلاف الجنيات
آلاف العصافير
وتحت قدميك في أسفل اللوحة، مراتعٌ للغزلان
بحيرات للبجع.
غابات لذئاب حلّت عليها لعنة الرعاة

يا سيّد العطور القديمة
يا طيفك
يا “أنا لك”،
خضّب “القماش” بالجنون
أضف تركيبة مباغتة للماء. للشفق

وأنا
أعدك بالوصول من الجهة المقابلة
للموعد/ للون
لننصهر معا في نقطة فراغ…

* الكاتبة: باحثة وناقدة تونسية.

الاخبار العاجلة