الشرق الأوسط على مفترق المحاور

آخر تحديث : الجمعة 18 يوليو 2025 - 9:56 مساءً
بقلم: د. وجدي صادق
بقلم: د. وجدي صادق

تشهد منطقة الشرق الأوسط صراعاً معقداً لا يمكن إختزاله في مواجهات عسكرية أو توترات دبلوماسية، بل هو صراع جذري عميق يتجلىٰ في تصادم مشروعين متوازيين يتنافسان على الزعامة الإقليمية والشرعية السياسية والدينية، يتمثلان في “خط ولاية الفقيه” الذي تقوده إيران، مقابل “خط الإمارة الأموية” الذي يتجلىٰ في المرجعية السنية العربية، خصوصاً في دول الخليج والأردن، في سياق تتشابك فيه الأبعاد المذهبية والسياسية والتاريخية، ويتقاطع هذا الصراع في ظل مثلث إقليمي معقد الأطراف؛ (إيران، وتركيا، وإسرائيل)، تحت رعاية وضبط أمريكي حريص على إدارة التوازن دون الإنخراط الكامل في الحسم. تستند إيران إلى مشروع “ولاية الفقيه” بوصفه منظومة حكم دينية – سياسية عابرة للحدود، ترىٰ في نفسها “قلب محور المقاومة”، وتعمل على تصدير هذا النموذج إلى بيئات هشة أو منقسمة داخل العالم العربي، عبر أدوات متعددة أبرزها الأذرع العسكرية الموالية لها مثل حزب الله في لبنان، والحوثيين في اليمن، والفصائل الشيعية المسلحة في العراق، إلى جانب بعض الفصائل الفلسطينية.

لا تخفي طهران طموحها لإعادة رسم الخريطة الإقليمية وفق توازنات تسمح لها بأن تكون مركز القرار الأول في المشرق العربي، مستفيدة من هشاشة النظام العربي الرسمي، وتراجع الحضور الأمريكي في بعض الفترات، وتآكل الثقة بين الشعوب العربية وأنظمتها، خاصة بعد الربيع العربي. في المقابل، يتشكل ما يمكن تسميته مجازاً بخط “الإمارة الأموية” وهو تيار سني–عربي تقليدي، لا يتمركز في دولة واحدة، بل يمثل مزيجاً من التوجهات السياسية والمرجعيات الدينية الرسمية في دول الخليج، والأردن، ومصر بدرجة متفاوتة.

يسعى هذا التيار إلى إستعادة الدور القيادي السني في العالم العربي، متكئاُ على شرعية تاريخية تستمد جذورها من العصر الأموي، في مواجهة تغوّل مشروع ولاية الفقيه، ويعمل عبر تحالفات سياسية وإقتصادية وعسكرية لتحجيم النفوذ الإيراني. وقد تجلى ذلك في مواجهات مباشرة وغير مباشرة في الساحة اليمنية عبر التحالف العربي، وفي سوريا بدعم المعارضة، وفي العراق عبر علاقات مع قيادات سنية ومحاولات موازنة الهيمنة الشيعية على القرار السياسي، فضلاً عن الحضور السياسي والديني في لبنان، رغم التراجع الواضح أمام سطوة حزب الله. وسط هذا التجاذب العقائدي الحاد، تبرز تركيا كلاعب ثالث يسعى إلى التوسع والنفوذ من خلالإاستدعاء “العمق العثماني”، بزعامة “رجب طيب أردوغان” الذي يروّج لمشروع الإسلام السياسي بطابع قومي–عثماني، يرتكز على دعم حركات الإخوان المسلمين، والتدخل العسكري المباشر في شمال سوريا، والإنخراط في الساحة الليبية، والتمدد نحو آسيا الوسطى والقرن الإفريقي.

رغم تباين تركيا الظاهري مع كل من إيران وإسرائيل، فإنها تحافظ على علاقات تجارية وأمنية وانتقائية مع الطرفين، وتحسن اللعب على التناقضات، دون أن تدخل في مواجهة كبرى، بل تتقدم كموازن رابع للمشهد التقليدي العربي.. أما إسرائيل، فهي تمثل قوة إقليمية قائمة على عقيدة الردع الأمني والهيمنة التكنولوجية، وتحتفظ بنفوذ إستخباراتي وعسكري واسع في المنطقة، خصوصاُ في سوريا ولبنان وغزة، حيث تخوض مواجهة غير مباشرة مع إيران عبر الضربات الجوية الدقيقة والعمليات الخاصة، لكنها في الوقت نفسه تسير في إتجاه تحالفات معلنة مع دول عربية خليجية في إطار “اتفاقيات إبراهيم”، في سياق إصطفاف غير معلن مع محور الإمارة الأموية، في مواجهة الخطر الإيراني المشترك، ما يجعل إسرائيل شريكاً ضمنياً في بعض دوائر الصراع السني–الشيعي.. ولا يمكن فهم هذا المشهد دون التوقف عند الدور الأمريكي الذي يمثل الراعي الأكبر لهذا التوازن الهش.

فواشنطن، رغم إعلانها المتكرر عن رغبتها في الإنسحاب من مستنقعات الشرق الأوسط، ما زالت اللاعب الأكثر تأثيراً، عبر قواعدها المنتشرة في الخليج وسوريا والعراق، وتحالفها المطلق مع إسرائيل، وسياستها المتأرجحة تجاه إيران بين الضغط بالعقوبات والإنفتاح في مفاوضات الملف النووي. أمريكا تدير التناقضات ولا تسعى لحلها، إذ ترى في إستمرار الصراع مصلحة إستراتيجية، فهو يبقي المنطقة في حاجة دائمة لحمايتها، ويمنع تشكل قوة إقليمية كبرى تهدد التفوق الإسرائيلي، أو تخرج عن النسق الإقتصادي العالمي الذي تديره.

في هذا السياق، لا يبدو أن المنطقة متجهة إلى حسم واضح، بل إلى حالة من “التعايش المسلح”، حيث يحتفظ كل طرف بأدواته الرادعة، ويُبقي على صراعاته ضمن خطوط الإشتباك المحددة سلفاً، من دون تجاوز للخطوط الحمراء التي ترسمها واشنطن وموازين الردع. إيران لن تتخلىٰ عن مشروعها ولن تتوقف عن دعم حلفائها، والدول العربية السنية لن تسمح بتمددها دون مقاومة، وتركيا مستمرة في تعزيز نفوذها عبر الوجود العسكري والإقتصادي الناعم، فيما تسعى إسرائيل لتقويض أي تهديد وجودي، مستخدمة تفوقها الإستخباراتي والدعم الأمريكي.

هكذا، يبقى الشرق الأوسط ساحة مفتوحة لصراع مركب، تتداخل فيه العقيدة بالسياسة، والهوية بالمصالح، والقوة الصلبة بالدبلوماسية الناعمة، في مشهد تتقاطع فيه الجغرافيا مع التاريخ، ويعيد إنتاج نفسه مع كل متغير إقليمي أو دولي، ليظل السؤال قائماً؛ هل هو صراع من أجل الهيمنة، أم بحث عن هوية ضائعة بين الفقيه والأمير والخليفة والجنرال؟

*كاتب المقال: إعلامي لبناني.

رابط مختصر
2025-07-18 2025-07-18
أترك تعليقك
0 تعليق
*الاسم
*البريد الالكترونى
الحقول المطلوبة*

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

شروط التعليق : عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

ان كل ما يندرج ضمن تعليقات القرّاء لا يعبّر بأي شكل من الأشكال عن آراء اسرة العربي الأفريقي الالكترونية وهي تلزم بمضمونها كاتبها حصرياً.

حاتم عبدالقادر